تقولها أمريكا وإيران بكل وضوح إنهما لا يريدان حرباً مباشرة أو حرباً شاملة وكبرى. الطرفان لا يزالان يلتزمان قواعد الاشتباك. قد يحصل سوء تقدير أو خطأ غير محسوب، كما جرى في استهداف قاعدة «تي 22» الأمريكية الواقعة شمال الأردن من قبل «فصائل المقاومة الإسلامية في العراق»، المسمّى المعتمد للميليشيات العراقية الموالية للحرس الثوري الإيراني، والذي أسفر عن قتلى أمريكيين للمرة الأولى منذ اشتداد العمليات ضد الوجود الأمريكي في العراق وسوريا تحت عنوان «نصرة غزة».
القاعدة المستهدفة في 18 كانون الثاني/يناير التي تضم 3000 جندي أمريكي هي برج مراقبة يتبع للقوات الأمريكية ضمن الأراضي الأردنية مهمته تقديم «المشورة والمساعدة» لـ«قاعدة التنف» في جنوب شرق سوريا التابعة للتحالف الدولي لمحاربة «داعش» والمتمركزة عند منطقة المثلث الحدودي العراقي ـ الأردني – السوري. تقول «جماعة محور إيران» إن المسيَّرة التي انفجرت ضمن سياج «قاعدة البرج» كان يُفترض بالدفاعات الجوية اعتراضها قبل وصولها إلى نقطة الاستهداف. فهذه كانت حسابات الفصائل العراقية التابعة لإيران التي تعلم علم اليقين أن سقوط قتلى أمريكيين هو خط أحمر. وتلك الفصائل سبق لها أن قامت بنحو 160 هجوماً ضد القواعد والمواقع الأمريكية في سوريا والعراق من دون أن تؤدي إلى سقوط قتلى.
إخفاق الدفاعات الأمريكية، والذي يُنسب إلى خطأ التقدير حول هوية المسيَّرة واعتقادهم بأنها «صديقة» وضع الميليشيات في ورطة. فالمسؤولية تقع في نهاية المطاف على إيران بوصفها الراعي والمحرِّك والمموِّل والمدرِّب لتلك الجماعات، والتي يجمع بينها أيضاً ولاؤها العقائدي الديني لولاية الفقيه. مسارعة كتائب «حزب الله» العراقي إلى الإعلان عن تعليق عملياتها ضد القواعد الأمريكية جاء مؤشراً إلى وقوعها في خطأ الحسابات في سياسة اللعب على حافة الهاوية.
خروج أذرع إيران عن قواعد الاشتباك
باختصار، هناك خروج لأذرع إيران عن قواعد الاشتباك. وتحرَّكت القنوات الخلفية بعد الهجوم على القاعدة «تي 22» إلى فهم ما يجري ليوصل كل طرف رسائله:
هدفت إيران إلى إرسال رسالة بأنها لم تخطط لإسقاط قتلى أمريكيين، كونها على دراية تامة بأن حصول ذلك هو مدخل لتصعيد المواجهة ونقلها إلى مستوى آخر، ولا تبغي هذا الأمر في الوقت الراهن، إذ إن الهدف الأول والأساسي اليوم للمرشد علي خامنئي هو كيفية العمل على حماية النظام الإيراني في مرحلة دقيقة يُعاد معها خلط كل الأوراق في المنطقة والعالم. لا أوهام لدى المتابعين أن أحد أهداف إنشاء الحرس الثوري الإيراني لكل تلك الأذرع وتمدده في المنطقة من البوابة العقائدية هو حماية نظام ولاية الفقيه من ضمن حلم استعادة الإمبراطورية الفارسية. وقد تحدَّث مطلعون عراقيون عن حنق قائد فيلق القدس إسماعيل قآني من «سقطة» أذرعه العراقية التي قد تؤدي إلى الانزلاق إلى حرب أوسع.
وهدفت واشنطن إلى إيصال رسالة بأن إدارة الرئيس جو بايدن لا بدَّ من أن تقوم بردّ. أولاً، لأن الشعب الأمريكي يتوقع أن تقوم بلاده بمحاسبة مَن يتسبّب بسقوط «دم أمريكي» حين يتعرَّض جنودها للخطر، ولا سيما في مهمات وحروب خارج البلاد. وثانياً لأن الرئيس في سنة انتخابية صعبة، وهذا الحدث سيتم توظيفه بقوة من قبل خصومه الجمهوريين الذين يصفونه أصلاً بالرئيس الضعيف، ويطالبونه بردٍ قاسٍ وقوي ومباشر ضد إيران وليس أذرعها.
نجحت القنوات الخلفية في «ترتيب الرد» بشكل مدروس يُعيد الأمور إلى قواعد الاشتباك. قال المتحدث باسم «البنتاغون» باتريك رايدر إنه سيكون متعدد المستويات وعلى فترات زمنية متعددة. وبعد مشاركة بايدن في استقبال جثامين الجنود الثلاثة الجمعة في 2 شباط/فبراير في قاعدة دوفر الجوية بولاية ديلاوير، أعلن «أن هذا المساء وبناء على توجيهاتي نفّذت القوات الأميركية ضربات على منشآت في العراق وسوريا يستخدمها الحرس الثوري الإيراني والفصائل المتحالفة معه في مهاجمة القوات الأميركية»، وأن «ردّنا بدأ اليوم وسيستمر في الأوقات والأماكن التي نحددها»، و«أميركا لا تسعى إلى صراع في الشرق الأوسط أو أي مكان آخر في العالم». كلام بايدن شديد الوضوح، ولا يحمل أي التباس في أننا لا نُعادي إيران ولا نرغب في حرب معها، وأن لا خطط لاستهدافها في الداخل الإيراني.
وقدَّم الجيش الأمريكي تقريراً دقيقاً عن ضربته الأولى، إذ أعلن أنه نفذ ضربات جوية في العراق وسوريا استهدفت «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس الثوري» الإيراني وجماعات مسلحة متحالفة معه، وأن الضربات شملت أكثر من 85 هدفاً. وقالت «القيادة الوسطى الأميركية» بأن قاذفات استراتيجية بعيدة المدى أقلعت من الولايات المتحدة شاركت في القصف الذي أُطلقت فيه 125 قذيفة دقيقة التوجيه. وأن الأهداف تضمنت مقرات قيادة وسيطرة، ومراكز استخبارات، ومخازن للصواريخ والمسيَّرات والذخائر والإمداد اللوجيستي تتبع للميليشيات و«الحرس الثوري» وكلها «سهّلت هجمات على قوات أمريكية وقوات التحالف الدولي».
سقوط
القتلى محسوب
ضربة «مُدوزَنة» تستهدف بُنى تحتية، وسقوط القتلى محسوب كونه لا يتعدى الحراسة، فعمليات إخلاء المقاتلين من المواقع قد تمَّت مسبقاً. وما سيليها من ضربات سيكون في رأي منظّري «المحور» مدروساً أيضاً، دون أن يعني ذلك أنه قد لا يطال رؤوساً إذا توفّر للقوات الأمريكية «هدفٌ ما» بعد الاحتياطات التي اتخذتها قيادات الميليشيات العراقية، وبعد سحب «الحرس الثوري» مستشاريه من الشريط على الحدود العراقية – السورية إلى الداخل السوري.
المهم في قراءة «المحور» أنَّ القنوات الخلفية تعمل بقوة بين إيران والغرب بما يتعلق بالساحات المفتوحة من قبل أذرع إيران من لبنان إلى سوريا والعراق والبحر الأحمر، وأن هناك حراكاً دبلوماسياً مُعلناً لإبقاء المواجهة الحالية محدودة، ولا سيما في ما خص جبهة الجنوب اللبناني وتهديد الملاحة في البحر الأحمر، بانتظار أن تتبلور معالم ترتيبات لوقف الحرب في غزة وما سيتبعها في اليوم التالي من وقف تلك الحرب، والتي تؤكد كل الأطراف أنها لن تخرج عن سياق التهدئة والتسويات المؤقتة، إذ إن زمن الحلول الكبرى غير متوفر في المدى المنظور، ولن يكون ممكناً في سنة أخيرة من إدارة أمريكية قد تكون راحلة، وقد تنقلب كل الموازين إذا ما جاءت إدارة جمهورية، وكان سيِّد «البيت الأبيض» المقبل اسمه دونالد ترامب.