رام الله- “القدس العربي”:
لا تتوقف الأخبار الإسرائيلية المرتبطة بالعمالة الفلسطينية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وكان آخرها ما نقل عن الحكومة الإسرائيلية بأنها ستجلب 65 ألف عامل من الهند وسريلانكا وأوزبكستان لاستئناف أعمال البناء المتوقفة بعد أن طردت الحكومة العمال الفلسطينيين في أعقاب هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على إسرائيل في السابع من أكتوبر العام الماضي.
وبحسب المتحدث باسم وزارة الإسكان الإسرائيلية فإنه من المتوقع وصول مجموعات جديدة من العمال الأجانب في الأسابيع المقبلة في ظل سعي الحكومة إلى تجنب نقص المعروض من الوحدات السكنية الذي من شأنه أن يؤدي لرفع أسعار العقارات مع بدء خفض أسعار الفائدة.
وبحسب إحصاءات إسرائيلية فإن نحو 72 ألف عامل فلسطيني كانوا يعملون في مواقع البناء في إسرائيل قبل عملية المقاومة الفلسطينية “طوفان الأقصى”، حيث تم تسريحهم واستبعادهم وإيقاف تصاريح عملهم لأسباب أمنية، فيما لا يزال هناك نحو 20 ألف عامل أجنبي في إسرائيل لكن نصف مواقع البناء تقريبا أغلقت بسبب نقص العمالة.
وبحسب المحلل والخبير الاقتصادي نصر عبد الكريم فإن إسرائيل ليست قادرة، حتى لو رغبت، في الاستغناء عن العمال الفلسطينيين، “على الأقل في المدى المتوسط”.
ويضيف: “سوق العمل الإسرائيلي بحاجة إلى نحو 350 ألف عامل أجنبي من الخارج، في ظل أنه لدى دولة الاحتلال أقل نسبة بطالة في العالم، وذلك قبل العدوان على قطاع غزة، حيث وصلت قبل الحرب إلى نحو 3.4٪”.
وتشير التقارير إلى أنه من فلسطين كان يأتي للعمل في إسرائيل ما يقرب من ١٥٠ ألف عامل، موزعين بشكل رسمي وغير رسمي، كما كان يأتيها من الخارج عمال من جنسيات مختلفة مثل: تركية وفلبينية وصينية وسيرلانكية، وجزء كبير من هؤلاء غادروا دولة الاحتلال بعد العدوان على غزة.
ويشدد الخبير عبد الكريم أن الطلب على العمالة في إسرائيل في ازدياد كبير، وهذا من جانب، يرافق ذلك على الجانب الآخر أن هناك اعتقادا راسخا من صاحب العمل الإسرائيلي مفاده أن العامل الفلسطيني يتمتع بصفات تميزه عن العامل من الخارج، من حيث الكلفة الاقتصادية الأقل، في ظل أن أجره أقل من أجر العامل القادم من الخارج، كما أنه لا يتطلب أي إضافات مثل السكن والتذاكر، فالقادمون من الخارج يتطلب جلبهم عقود عمل غالبا ما لا يحصل عليها العامل الفلسطيني، إلى جانب أن العامل الفلسطيني يتمتع بإنتاجية عالية مقارنة مع غيره من العمال، فهو مجرب ويمتلك خبرات كبيرة، واعتاد على نمط العمل داخل الكيان، وبنى بعض العمال شراكات مع أصحاب العمل في الداخل. كما أن بعضهم أصبحوا مقاولين ويأخذون أعمالا على حسابهم الخاص، وخصوصا في قطاعات الزراعة والبناء والانشاءات، والخدمات السياحية.
وثالث العوامل والحديث للخبير عبد الكريم هو عامل اجتماعي مهم، ويتعلق بأن العامل الفلسطيني ليس جسما غريبا قادما من الخارج مثل العمالة الأجنبية، حيث لا ينخرط مع المجتمع الإسرائيلي، فهو (أي العامل) مستقل في الداخل المحتل، ومن جانب آخر هناك اعتياد من الإسرائيلي على الثقافة الفلسطينية بفعل وجود ما يقرب من ٢ مليون فلسطيني في الأراضي الفلسطينية عام ١٩٤٨.
وهو بالتالي، ما يجعل من العامل الفلسطيني غير مكلف اجتماعيا، ولن يؤثر على النسيج الخاص بالمجتمع اليهودي ولن يغير العادات والممارسات ولن يهدد السلم الأهلي. كما أن العامل من ناحية أخرى سهل الاندماج، ضمن حدود يقبلها الإسرائيلي. فيما جزء كبير من العمال يغادرون مكان عملهم بشكل يومي بحسب الخبير الاقتصادي نصر عبد الكريم.
ويتابع: “إذا سألت أي مقاول إسرائيلي فإنه سيختار العامل الفلسطيني لسبب آخر مهم وهو اللغة، حيث إن هناك عمالا كثر يتقنون تحدث العبرية”.
وبحسب المحاضر غير المتفرغ في جامعة بيرزيت الدكتور باسل ريان فإن النظر إلى مسألة العمال الفلسطينيين في الداخل المحتل، له جانبان، الأول: جانب أمني، والثاني اقتصادي، وكلاهما يكمل الاخر، ويشدد على أن النظرة للتحليلية للاقتصاد وحده تجعلنا نخسر الكثير من عوامل التحليل في دراسة الظاهرة، والعكس صحيح أيضا.
عمالة مرنة
ويرى الباحث ريان، وهو ذو اهتمامات بحثية مرتبطة بالتحليل الاقتصادي الاجتماعي، أن علاقة الفلسطيني مع محتله علاقة أمنية بالأساس، “ومن ضمنها ما يتخذه الاحتلال من إجراءات بحق الفلسطينيين من أجل إدارة الملف الأمني كله، والعمالة الفلسطينية جزء من ذلك في ظل تبعية الاقتصاد الفلسطيني للإسرائيلي، فالعمال لا ينفصلون عن هذه المعادلة التي يديرها الاحتلال من خلال مفهوم إدارة الصراع، حيث يتم استيعاب العمال بهدف الحفاظ على الأمن في ظل الاحتلال”.
ويكمل ريان: “ينظر إلى العمالة الفلسطينية على أنها “عمالة مرنة”، من ناحيتين الأولى أن دولة الاحتلال لا تدفع رأس مال لتكوين العامل. وثانيا، يعتبر العامل الفلسطيني مفيدا للاحتلال من ناحية أن العوائد المالية التي يحصل عليها هذا العامل تعود إليه بشكل مباشر أو غير مباشر. وهو ما يجعل من العمالة الفلسطينية مربحة للاحتلال”.
ويضيف: “إلى جانب كل ذلك يستخدم الاحتلال العمالة كورقة للحفاظ على الأمن، وهذا جانب مهم في فهم المسألة”.
مخاوف قطع العلاقة
ويرى كريم قرط، الباحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، أنّ الحديث عن الاقتصاد لا ينعزل عن المجتمع الفلسطيني الذي تجرع ثِقل العدوان الاقتصادي غير المسبوق خلال الحرب على قطاع غزة، وهو ما يعيد إلى الذاكرة ما جرى في السنوات التي أعقبت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حيث عقب تلك الانتفاضة سيادة جملة من الرؤى السياسية حول مستقبل الصراع، وتموضع الاقتصاد في قلبها، ما دفع إلى تقديم أطروحة “السلام الاقتصادي” لرئيس وزراء الاحتلال “بنيامين نتنياهو”.
ويشير الباحث قرط إلى أنّ الاحتلال وصل إلى قناعة بأن هذه الرؤى (السلام الاقتصادي) وصلت إلى طريق مسدود، وأنّ عليه أن يغير من استخدامه للاقتصاد من أداة ترغيب إلى أداة ترهيب، وذلك لإعادة إنتاج الواقع الاقتصادي بما يتوافق مع الظرف السياسي الحالي والمستقبلي.
ويستعرض قرط أبرز معالم الحرب الاقتصادية التي يشنها الاحتلال على الضفة الغربية، خلال دراسة حملت عنوان “هل تسعى “إسرائيل” إلى تقويض الاقتصاد في الضفة الغربية لدوافع سياسية؟ ونشرها مركز رؤية للتنمية السياسية. وتستعرض الدراسة تلك الحرب التي تستهدف العمال في الداخل المحتل، وحصار الضفة الغربية، ووقف رواتب موظفي السلطة، والدمار الذي يطال القطاع الخاص.
ويخلص في دراسته إلى أنّ ما تمر به الضفة الغربية من حرب اقتصادية ليست مجرد أزمة عابرة سينجلي أثرها عقب انتهاء العدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة، إذ يبدو أنّ لدى الاحتلال رغبة حقيقية في عدم إعادة العمال إلى عملهم في الداخل.
ويؤكد أنه لا يبدو أنّ الحرب الاقتصادية ستنتهي قريبًا، فهي ترتبط بمخططات تتعلق بمستقبل الضفة والسلطة الفلسطينية فيها، مشددا على أنّ سياسة الاحتلال هي سيف ذو حدين، فمن المحتمل أن تشهد الضفة اضطرابات كبيرة في ظل استمرار هذه الحرب الاقتصادية وعجز الناس عن مجاراة مستلزمات الحياة وهو ما لا يريده الاحتلال مطلقًا.
بدوره، يقول الخبير الاقتصادي عبد الكريم إن العامل الأهم في الاستغناء عن العمالة هو عامل سياسي، “ففي حال قررت إسرائيل الاستغناء عن العمال يكون السؤال المهم والمركزي هو ما مدى انعكاس ذلك على العلاقة مع السلطة الفلسطينية، حيث في حال أقر الاحتلال هذا القرار فإن ذلك سيعني، من ضمن ما يعنيه، أن تعاد العلاقة مع السلطة وربما ربطها مع كيانات سياسية عربية مجاورة، وهذا يعني البعد عن مسار أوسلو، والذهاب إلى تسوية مخالفة تماما عما كان يروج له منذ عشرات السنين، “وهو يعني التخلص من المسؤوليات المدنية تجاه الفلسطينيين باتجاه تسوية دائمة ومختلفة. وهذا ممكن، لكن احتمالية ذلك ضئيلة جدا”.
ويتابع: “لكن إذا كانت لديهم النية في ممارسة ضغط كبير على الفلسطينيين لدرجة تعريضهم لتسخين عال جدا بحيث يتم دفعهم لحل سياسي على حساب المصالح الوطنية الفلسطينية، فإن هذا ممكن. هنا لو صحت وجهة النظر هذه، أي قرر الاحتلال القيام بقطع في العلاقة على حساب الفلسطينيين ضمن تسوية دائمة في علاقة وظيفية/ سيادية ما مع دول عربية مجاورة، لو صح ذلك فإنه يمكن أن تدخل العمالة الفلسطينية للعمل في الداخل المحتل، لكن بندية أكبر، ستدخل وكأنها عمالة أجنبية، بعد التسوية المفترضة (حتى لو كانت إيجابية أو سلبية)، وضمن دولة فلسطينية مهما كان شكها، حيث ستبقى العمالة الفلسطينية مطلوبة ولن يتم القطع معها تحت أي ظرف من الظروف.
العكس تماما
والصورة بحسب الباحث ريان يجب ان يتم النظر إليها بصورة أكثر شمولا، يقول: “كي نفهم يجب أن ننظر إلى المشهد الإسرائيلي بصورة أشمل، فالحلم الإسرائيلي لم يتوقف عن أن يكون دولة ذات أطماع دينية، وبالتالي لن يتوقف أو يستسلم إلى حقيقة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيلية، نحن أمام احتلال ببعد ديني قوي وطاغ، وبالتالي لن تتوقف الأطماع بالحلم الإسرائيلي من البحر إلى النهر”.
في ظل ذلك لا يتوقع المحاضر ريان صعود تصورات الانفصال عن الفلسطينيين، “بل ما أتوقعه هو العكس تماما. في ظل وجود خطط مؤجلة للاستيلاء الكامل على الضفة الغربية… كل يوم نستيقظ على أخبار التوسع الاستيطاني، وبالتالي الاحتلال يفكر دوما بالأمن من أجل تسويق خططه بعيدة المدى، وما أتوقعه هو عدم الاستغناء عن العمالة، وهو ما يجعل كل ما يسمع وينشر عبر الاعلام هو حالة من المساومة لتحقيق وتحصيل مواقف او توازنات لحظية وآنية”.
ويضيف: “وحتى لو استقدموا الالاف من العمال من الخارج، فيمكن الاستغناء عنهم بسرعة كبيرة، ما يجري هو أقرب إلى التكتيك الحربي، في ظل أن الاحتلال بعد ٧ أكتوبر خرج بمؤشرات مفادها أن انفصال غزة التام عن إسرائيل هو خطأ جسيم، وبالتالي الإسرائيلي يقول إنه إذا كان هناك نموذج يمكن ان يطبق في الضفة الغربية فيجب أن يكون مختلفا تماما عما جرى في غزة، وجوهره ممنوع الخروج من الضفة وبالتالي يجب تكريس سياسة البقاء في ظل الاحتلال.
ويرى ريان أن هناك سيناريوهات سيئة مرتبطة بواقع سياسات السلام الاقتصادي، “هنا نجد ان الاقتصاد موضوع للاستعمال، وشرطه ان يكون هناك هدوء أمني، والأخير يتطلب قبولا اجتماعيا للآخر (اليهودي)، وهناك بوادر قبول للعيش المشترك مع اليهود وبالإمكان رؤية امثله عليه”.
ويختم: “معادلة السلام اقتصادي هي شعار، وما يخفيه هذا الشعار هو العيش أو القبول بالعيش المشترك في ظل الاحتلال، وكل ذلك يقول إن الأسوأ، وهو المتوقع، قادم مع الأيام، فمساحة فلسطين تقل، ومساحة إسرائيل تكبر”.
وتشير الأرقام إلى أنه كان يملك ما يقرب من 150 ألف فلسطيني من الضفة الغربية و18.5 ألفا آخرين من قطاع غزة تصاريح لدخول إسرائيل للعمل، وفقا لوحدة تنسيق الأعمال الحكومية في المناطق، فيما تكلفة الاستمرار في حظر العمال الفلسطينيين قد تصل إلى 3 مليارات شيقل (830 مليون دولار) شهريا.
وبحسب تقرير صحيفة “يديعوت احرنوت” فإن قضيتين رئيسيتين ستكونان في قلب مناقشات الكابينيت السياسي – الأمني الإسرائيلي: الحظر الذي فرضه مجلس الوزراء على دخول ما يقرب من 100 ألف عامل فلسطيني يحملون تصاريح للعمل في إسرائيل، وعدد المصلين الذين سيدخلون للصلاة في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان.
علما أن الجيش الإسرائيلي والشاباك أوصيا أمام المستوى السياسي، قبل نحو شهرين، بالمصادقة على دخول 100 ألف عامل فلسطيني إلى إسرائيل للعمل “كخطوة تلجم” توترا متوقعا.