حسبما أُعلنته الجهات الراعية لتمديد الاستبداد السوداني، انتهى الفصل الأول المتعلق بالجوانب العملياتية والتطبيقية لنص «المنودراما» السياسي، الذي أدى فيه الرئيس عمر البشير الدور الرئيس، وبمفرده، على خشبة تضاريس المسرح السياسي السوداني.
هذا الامتياز الاستثنائي مرده، كون الرئيس ممثلا بارعا وصاحب تجربة ثرِيْة في لِيّ الحقيقة، بل قتلها، وبالتالي هذه المهارة لم تأت صدفة، بل جراء تراكم لعمل مضن وشاق استمر أكثر من ربع قرن، أما مكان مسرح العبث فهو السودان. فيما نص المسرحية هو الانتخابات، أما المستهلكون والمتلقون فهم الشعب السوداني الذين رفضوا الحضور والمشاركة، مكتفين بالفُرجة من بعيد.. والأخير رغم عدم تسجيل حضوره ينتظر نتائج فعلٍ لم يشارك فيه، إلا أنه يعلم نتائجه. هذه حيثيات الفصل الأول، أما الثاني منه فيتعلق بعملية الإخراج التي تقتضي بعض اللمسات الفنية العالية من أصحاب الخبرات للزوم التهذيب والتشذيب، قصد إعلانها رسميا في السابع والعشرين من الشهر الجاري، حيث الرجل الواحد الفريد ينتظر أن تأتي نتائج عروض مسرحيته التي تُعرض في الخارج لسودانيي الشتات، خلال هذه الأيام، حيث المؤكد أن ما نسبته 99.9 في المئة من هذه الطبقة الجديدة غير معنيين بها، باستثناء ممثلي سفاراته في الخارج.
المؤكد في مسرح الرئيس الانتخابي الذي يرمي من وراء فصوله تجديد شرعنة دكتاتوريته، مع التسليم بأنه لا يحتاجها وفق نصائح إقليمية ودولية ووطنية قدمت له، فيه قد لا تجد وسائل الإعلام المحلية أو الدولية عند إعلان النتيجة مادة أو حدثا إخباريا تنقله لوسائلها الأم، اللهم إلا أن تكرر ما نقلته في السابق، وتضيف إليه عبارة» خمس سنوات» أخرى، ليصبح المجموع ثلاثين عاما انتخابا وحكما. في هذا السياق نحن أيضا قد لا نحتاج إلى تأكيد المؤكد أو إثبات الثابت، لأن الشعب السوداني بقواه الوطنية الشبابية والسياسية والإعلامية والفكرية والدينية والثقافية والفنية والمدنية وحتى العسكرية منها، تمكّن من إبطال مفعول قنبلة التدليس على إرادته قبل وقوعها، في تقييم ورصد وقراءات وتحليلات ومناشدات ونداءات باستحقاق المقاطعة عوض استحقاق الانتخاب، لتقع الأولى في متابعة وتفنيد وتحر وتحقيق وتعرية وفضح لعملية الخدعة السياسية التي تجري في البلاد، لتشكل نتيجتها ـ المقاطعة الوطنية- إنجازا وطنيا قوميا لا تستطيع أي جهة احتكارها أو الزعم بأنها هي وحدها وراءها، رغم الدور الملموس والواضح للمعارضة السودانية في شقيها المدني والعسكري/ الثوري وحملة «إرحل» الوطنية التي وجدت الاستجابة من لدن كل قطاعات الشعب في مقاطعة شبه كاملة ونهائية لمسرحية الحكم الانتخابية التي سوف تأت بذات الرئيس الربع قرني، في مسألة لا تقبل أي فرضية، بل هي ثابتة ولا يبدلها إلا ساحر أو وقوع قوة قاهرة!
عليه، ووفق ما تقدم، ليس من الأهمية الدخول في سجال، لماذا.. وكيف؟ وما الذي جري أو كيف يجري؟ أو ماذا يريد الرئيس أو من قام بتضليله – وله /لهم ما أرادوا- غير الالتفاف حول مسألة سيادة الدولة والحصانة، علّها تحميه/ تحميهم من نهايات مأساوية، قد تكون مشابهة لحالات ماثلة في دول الجوار العربي. أما الأهمية فهي ذات ارتباط وصلة بالرسم الإطاري العام للأزمة السودانية، لاسيما في نقطتها المفصلية آلا وهي استعادة الدولة، وتتلخص في مبدأين مهمين، في المبدأ الأول وبغض النظر عن مقاربة أهل الحكم له، سواء من حيث الأهداف والمنطلقات، أو الأغراض التي في مجموعها قطعا لا علاقة لها مع أدبّ ترسيخ قيم الدمقرطة أو دسترة لمؤسسات الدولة لإفساح المجال لتدوال سلمي على السلطة في الحد الأدنى. جاءت العملية التي يديرها ويشرف عليها تنظيم المؤتمر الوطني الحاكم، الذي رشح رئيسه ذاته وهو رئيس الجمهورية الحاكم، مع تمويل مصاريفه الانتخابية من خزانة الدولة الواقعة تحت السرقة الموصوفة لعقدين ونيف، معاكسة ومتناقضة للإستراتيجية المعدة، لتتحول العملية برمتها إلى مركز كبير لأحد أهم مراكز قياس اتجاهات الرأي العام، تجاه قضية وطنية سودانية عصّية على الفهم والاستمرار، مؤشرات مراكز قياس الرأي العام في هذه العملية، ميدانيا أكدت ثلاث نقاط جوهرية، أولاهما، سقوط منظومة الإسلامويين وآفة الاستبداد الديني، وقطيعة معرفية مع عموم المنهج الفكروي للإسلام السياسي، على الأقل في الجغرافيا السودانية وللأبد، وتلك لحسبي محمدة كبرى.
ثانيتهما، سحب الشرعية الوطنية التي طالما خضعت للتزييف والمكابرة من نظام الحكم القائم وقطع الطريق لكل صيغ الشرعنات. ثالثتهما، السقوط الوطني والشعبي لشخص الرئيس السوداني عمر البشير الوارد في صيغة «مواطن» صالح هذه الأيام، ومكلف بتسيير دولاب الدولة، علما بأنه في انتظار قرار التمديد من طرف مفوضيته الانتخابية عبر صيغة الرئيس الفائز الحائز أغلبية بسيطة، وفق توجيهات أجهزة حكمه الأمنية ومليشياته وقوة المال في صندوق خزانة مالية الدولة المحمول على الكتف، في هذا الإعلان المرتقب، نأمل أن تقابله القوى السياسية الوطنية والناشطين وقوى «إرحل» الوطنية بإعلان مواز يُعلن فيه شعبيا ووطنيا سقوط الرئيس السوداني، والحديث عن فراغ في السلطة عبر حملة إعلامية واسعة، وما تيسرت من مؤتمرات صحافية، وهي خطوة استباقية تمهّد لما بعدها، خصوصا وحملة «إرحل» الوطنية لم تأت في سياق الاستجداء أو الطلب، وإنما بصيغة الأمر الصارم الجلي.
لنخلص إلى نتيجة مفادها، اكتمال كل أركان الشرعية الوطنية التي تمثلها قوى المجتمع السوداني في البلاد، لإسقاط المجسم الديكتاتوري القائم بعدما خسر امتحان الإرادة والشرعية الوطنية.
أما المبدأ الثاني، فيتحدد في تطابق محددات الشرعية الوطنية لإسقاط البشير مع محددات الشرعية الدولية الرافضة للعملية الانتخابية وإجراءاتها التي تجدد للبشير، وفيها سجلت مؤسسات ودول تلعب دورا في صناعة القرار العالمي مواقفها الواضحة، على سبيل المثال لا الحصر، موقف دول الاتحاد الأوروبي، أمريكا، كندا، منظمات تتبع للأمم المتحدة، مؤسسات عدلية دولية، الجنائية الدولية، بالإضافة إلى عدد كبير من المنظمات الدولية والسودانية المهتمة بالحريات وحقوق الإنسان، هذا بدون أن ننسى الموقف السلبي الذي سجلته الجماعة العربية والاتحاد الأفريقي الداعمتان دوما للإجرام وصناعته، وتعلمان علم اليقين ان موقفيهما لا أثر له بالنظر إلى فقدانهما المصداقية، ناهيك عن التكالب للإشراف على استمرار الرئيس السوداني.
يبقى في الأخير مهماً القول، إن الرئيس السوداني وضع نفسه أمام محك وإختبار صعب لا يمتلك أدواته ولا يساعده أرشيف مؤهلاته السياسية هذه المرة، هذا المحك يتعلق بمسألة الشرعية، الذي يرى فيه ألا حاجة للشرعية الوطنية، ليس بسبب التأييد الداخلي له وإنما جراء إلغائه الإرادة الوطنية أو مصادرتها أو استعمارها، وبالتالي ليست ذات أهمية في أدبياته وسُلم أولوياته، في حين يسعى لاستجداء الشرعية الخارجية، التي سقطت هي الأخرى من بين يديه. ومن هنا يقفز سؤال المقدمة الاستفهامي، بالنظر إلى المهمة الوطنية المحددة في استعادة الدولة عبر ميكانيزم «الانتفاضة» أو «الحوار»، الذي رفضه البشير في «أديس أبابا» مؤخرا، هل من طريق ثالث يكون مبررا وكافيا لإسقاط نظام الخرطوم، بأي آلية وبأي ثمن بعد تطابق وتكامل الإرادتين الوطنية والدولية؟
٭ كاتب سوداني مقيم في لندن
محجوب حسين