أقرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن يوم 22 يناير بوضع أربعة أسماء من زعامات المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة على قائمة العقوبات. وحسب البيان الرسمي فإن هذه الإجراءات العقابية «تهدف إلى تعزيز السلام والأمن للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء». وتشمل العقوبات حرمان المذكورين من تأشيرات دخول الولايات المتحدة ومنع التعامل معهم. والمستوطنون الأربعة هم دافيد خاي خاسداي الذي قاد الهجوم على حوارة في شهر فبراير 2023 الذي أدى إلى استشهاد مواطن وتدمير الممتلكات وحرق السيارات والبيوت والمحلات التجارية. والثلاثة الآخرون هم إينان تانجيل، وشالوم زيكرمان، ويينون ليفي، الذين قاموا بأعمال عدوانية استهدفت الفلسطينيين في بيوتهم ومزارعهم والاستيلاء على أملاكهم وضربهم.
وكالعادة تبدأ جوقة الدول الدائرة في فلك الولايات المتحدة تعيد وراء سيدها. فقد أعلنت وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي، بعد ثلاثة أيام من القرار الأمريكي، أن كندا ستفرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين الذين يحرضون على العنف في الضفة الغربية، وبدأت دول أوروبية أخرى تتبع النهج الأمريكي. فهل هذه القرارات صادقة؟ وهل توقيت هذه القرارات التي جاءت في خضم حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني صدفة؟ وهل آثار هذه القرارات ستنعكس على لجم حركة الاستيطان ووقفها وإعادة عقاربها إلى الوراء؟
ارتفعت حدة الانتقادات ضد المستوطنين مع ارتفاع حدة الانتقادات للمواقف الأمريكية، داخليا ودوليا، في تبنيها للرواية الصهيونية، وكأن ذلك يكفي لتبرئتها من التورط في حرب الإبادة
كل تلك الأسئلة لا بد أن تخطر في بال أي متابع للسياسة الأمروأوروبية التي وقفت بقوة مع الكيان في حرب الإبادة ومنعت وقف إطلاق النار، لتعطيه الوقت الكافي لتحقيق أهدافه، خاصة اجتثثات حركات المقاومة، وعلى رأسها حماس، واستعادة الرهائن دون قيد أو شرط. وها هي الحرب تدخل شهرها الخامس، دون أن يحقق الكيان أيا من أهدافه المعلنة. لقد ارتفعت حدة الانتقادات الأمريكية ضد المستوطنين مع ارتفاع حدة الانتقادات للمواقف الأمريكية، داخليا ودوليا، في تبنيها للرواية الصهيونية، ومنع مجلس الأمن من اعتماد قرار ملزم لوقف إطلاق النار من جهة، وتزويد الكيان بالسلاح والذخائر والأموال من جهة أخرى. وكأن نقد المستوطنين يكفي لتبرئة الإدارة الأمريكية من التورط في حرب الإبادة، التي يشهدها العالم في قطاع غزة وزيادة الاقتحامات والاغتيالات وهدم البيوت والاعتقالات في الضفة الغربية. الإدارة تركت كل المسؤولين عن هذه القرارات من حكومة وجيش وأجهزة أمنية واستخبارات، واختارت أن توجه نقداً ناعماً لبعض غلاة المستوطنين، دون أن تشير إلى الاستيطان، حتى زعيم التطرف والمسؤول عن تسليح 250 ألف مستوطن إيتمار بن غفير، بعد أن أثيرت ضجة حول رفض منحه تأشيرة لدخول الولايات المتحدة، عادت وزارة الخارجية وتراجعت عن القرار وأقرت حقه في التأشيرة. فنقد المستوطنين لم يكن شاملاً ولا قطعياً ولم يتطرق لظاهرة الاستيطان الممنوعة في القانون الدولي. ولذر الرماد في العيون اختارت الولايات المتحدة أربعة أسماء فقط من آلاف المستوطنين، الذين ارتكبوا جرائم نهاراً جهاراً، ولم تتطرق لتنظيمات المستوطنين مثل «فتيان التلال» و جماعات «تدفيع الثمن» ومنظمة «لاهافا» ومنظمة «نحالا». وهناك في سجلات المؤسسات الفلسطينية المختصة قائمة بـ63 تنظيما إرهابيا تعمل على توسيع الاستيطان وإرهاب الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم وحرق أشجارهم وتدمير محاصيلهم، ثم يأتي العجوز بايدن ليقدم رشوة تافهة للفلسطينيين، بمعاقبة بعض رموز الاستيطان الأكثر قباحة وتطرفاً وتدميراً.
كيف يمكن أن نأخذ قرارات إدارة بايدن بشكل جدي، التي وصلت متأخرة 56 سنة فقط، وبعد أن وصل عدد المستوطنين أكثر من 750 ألفا في الضفة الغربية، بما فيها القدس، وتم السكوت الأمروأوروبي على حركة الاستيطان كل هذه السنوات، لماذا تذكروا عنف المستوطنين الآن، علما أن بعض هذه الدول تعقد الصفقات مع المستوطنات وتستورد منتوجاتها وترفض أي إشارة تشير إلى مصادرها؟ انطلقت حركة الاستيطان في الأرض المحتلة في الضفة وغزة والقدس والجولان وسيناء مباشرة بعد حرب 1967، حيث أصدرت السلطات الصهيونية مجموعة من القوانين العسكرية لتسهيل السيطرة على الأراضي، خاصة في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة والجولان السوري، وأي قانون يصدر عن الحاكم العسكري، أو قيادة الجيش فلا يمكن الاعتراض عليه، ويصبح نافذاً ولا تستطيع حتى المحكمة العليا أن تلغيه. وبعض تلك القوانين تتعلق بتسهيل الاستيلاء على أراضي الدولة، تحت حجج عديدة مثل: قانون «أراض عسكرية مغلقة»، و»أملاك غائبين» و»أملاك دولة» و»مناطق تدريب عسكرية» و «محميات طبيعية». كلها تنويعات على وتر واحد يعني مصادرة أرض الفلسطينيين. وعبر هذه الأوامر العسكرية تم الاستيلاء على أراضي وممتلكات الفلسطينيين التي هُجّروا منها أو نزحوا عنها خلال الحرب إلى مناطق أخرى، نتيجة الاحتلال. لقد تمت مصادرة أراض واسعة من الضفة الغربية مباشرة بعد الحرب لأغراض عسكرية للرماية والتدريبات، وباعتبارها مناطق أمن للجيش وحولت سلطات الاحتلال ملكية الأراضي التي كانت تديرها الدولة الأردنية، والأراضي المسجلة بأنها أراضي دولة منذ العهد العثماني في الضفة الغربية، تحت تصرف سلطة الاحتلال. كانت مساحة الأراضي الأميرية بعد الاحتلال تقارب 527 ألف دونم، أي نحو 9% من إجمالي مساحة الضفة، ثم ارتفعت إلى نحو 700 ألف دونم، أي 12% من المساحة مع نهاية عام 1973، حيث أضافت سلطات الاحتلال أكثر من 160 ألف دونم إلى أراضي الدولة. وأظهرت نتائج استطلاع مقارن أجراه مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان «بتسيلم» في منطقة رام الله، فروقا هائلة بين نسبة المساحات التي صنّفتها حكومة الأردن مُلكا حكوميا في أراض مسجّلة في سند الملكية (الطابو) قبل الاحتلال، ونسبة المساحات التي صنّفتها إسرائيل أراضي دولة في مناطق لم يمهل الوقت الأردنيين لتسجيلها، وعززت نتائج الاستطلاع الاستنتاج بأنّ جزءا كبيرا من المساحات التي صنّفتها سلطة الاحتلال أراضي دولة هي في الواقع ملك خاصّ لفلسطينيين، سلب من أصحابه الشرعيين بواسطة مناورات قضائيّة منتهكة بذلك القانون المحلّي والقانون الدولي.
لقد ضم الكيان الصهيوني بين عامي 1979 و2002 (وفقا لتقديرات «بتسيلم») أكثر من 900 ألف دونم جديد (16%) من أراضي الضفة وحولتها إلى أراضي دولة، وهي زيادة بنسبة 170% على أراضي الدولة التي كانت في الضفة قبل الاحتلال. وحسب معطيات «بتسيلم» لعام 2017، يوجد في مناطق «ج» نحو 1.2 مليون دونم مصنّفا «أراضي دولة»، وهو ما يشكّل 36.5% من مناطق «ج» و22% من مجمل أراضي الضفة الغربية، إضافة إلى نحو 200 ألف دونم مصنّفة «أراضي دولة» تقع ضمن مناطق «أ» و»ب» التابعة للسلطة الفلسطينية. باختصار تبلغ مساحة الأراضي الواقعة تحت سيطرة المستوطنات مباشرة، نحو 40% من مجمل مساحة الضفة الغربية. بعد كل هذا، والذي جرى تحت عيون وآذان التحالف الأمروأوروبي مع كيان الشر والإرهاب، فمن يشتري هذه البضاعة الكاسدة التي يعرضها الآن بايدن على الشعب الفلسطيني؟
الولايات المتحدة الأوروبيون، يعرفون ما ينص عليه القانون الدولي في مسألة الاستيطان. فهم جميعا موقعون على اتفاقية جنيف الرابعة، ومن المؤكد أنهم يعرفون البند رقم 49 الذي ينص على عدم جواز نقل سكان من الدولة القائمة بالاحتلال إلى الأراضي المحتلة وبالعكس. فكل المستوطنات غير شرعية وكل قاطنيها غير شرعيين، وكل فلسطيني ينقل إلى معتقل أو سجن في أرض القوة القائمة بالاحتلال فهو انتهاك للاتفاقية. مجلس الأمن اعتمد العديد من القرارات، التي لا يمكن أن تعتمد دون تأييد، أو على الأقل امتناع أمريكي عن التصويت. وأذكر القرارات 446 (1979) الذي أكد أن الاستيطان غير شرعي. وتكرر الموقف نفسه في قرارات عديدة منها 452 و465 و471 و467 وصولا إلى رأي محكمة العدل الدولية حول الجدار عام 2004، الذي نص على أن «المستوطنات لا تتوافق مع القانون الدولي». وقرار مجلس الأمن 2334 (2016) في أواخر أيام إدارة أوباما، الذي ينص على «أن النشاط الاستيطاني الإسرائيلي يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وليس له أي شرعية قانونية». ووفقا للمادة 8 (2) (ب) من نظام روما الأساسي المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، فإن «نقل دولة الاحتلال، بشكل مباشر أو غير مباشر، لأجزاء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها هو عمل غير مشروع. ويشكل جريمة حرب».
كل تلك القوانين والقرارات لم تثر انتباه الإدارات الأمريكية المتعاقبة، إلا ممارسات أربعة مستوطنين. فمن يصدق هذا الموقف الانتهازي في ظل حرب الإبادة والدور الأمروأوروبي فيها؟
كاتب فلسطيني