الحربُ في فلسطين المحتلة مشهدية متعددة الجبهات، تشمل الوطن العربي مشرقاً ومغرباً. المشرق عربيّ الهوية، لكنه غربيّ في واقعه السياسي والعسكري والاقتصادي. لا قرار بيد عرب الهوية. وحدهم عرب المقاومة يملكون الإرادة والقرار. الحرب في فلسطين المحتلة متواصلة بين عرب مقاومين وصهاينة حشدهم الغرب الأوروبي من كل أصقاع الدنيا، ثم أورثهم للغرب الأمريكي، الذي منحهم ويمنحهم القدرةً على تنفيذ سياسته بقدْر ما تسمح به مصالحه. هذا ما يستدعي انخراط الولايات المتحدة وبعض حلفائها الأوروبيين في وساطةٍ دبلوماسية لتهدئة حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني.
تسعى أو تتظاهر دول عدّة في هذه المرحلة بالعمل لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، بغية إدخال الماء والغذاء والدواء والوقود، لمئات آلاف الفلسطينيين المشردين في العراء، لاسيما في جنوب قطاع غزة. بنيامين نتنياهو وزمرته في الإئتلاف الإسرائيلي الحاكم يرفضان، بمعرفة وموافقة الراعي الأمريكي، لشراء المزيد من الوقت وتحقيق أغراض المرحلة الأخيرة من مخططه الحربي الوحشي، وهي الضغط الشديد بكل الوسائل على آلاف النازحين الفلسطينيين المتجمّعين غرب مدينة رفح ووضع دول العالم، خصوصاً مصر، أمام خيارين: إنهاء وجود النازحين الفلسطينيين في جنوب قطاع غزة بتهجيرهم إلى سيناء المصرية، أو قتلهم جوعاً وعطشاً ومَرَضاً وبرداً.
ليس صحيحاً أن الولايات المتحدة جادة في الضغط على «إسرائيل» للقبول بهدنة تتيح إدخال المساعدات الإنسانية إلى النازحين الفلسطينيين البؤساء، الدليل، مسارعة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى وصف تعديلات حركة حماس على عرض الوساطة المقدّم نتيجةَ توافق ممثلي أجهزة المخابرات المصرية والقطرية والفرنسية والأمريكية بقوله: «هذه مطالب مبالغ فيها». ردُّ بايدن هذا صدر قبل إعلان نتنياهو رفضه العرض ذاته! لكن إزاء تصاعد عمليات المقاومة في لبنان ضد المستعمرات الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة، وعمليات المقاومة ضد القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا والأردن، وعمليات المقاومة في اليمن ضد البواخر المتوجهة إلى موانئ «إسرائيل» على البحر الأحمر، ورفض مصر تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، ذلك كله حَمَل بايدن على تلطيف لهجته بوصفه ردّ «إسرائيل» على المقاومة في غزة بأنه «تجاوزَ كلَ حدٍّ». ربما يُضطر نتنياهو تحت وطأة الضغوط السياسية وإخفاقات جيشه، إلى القبول بهدنة مؤقتة في قطاع غزة لا تشمل الضفة الغربية، أو منطقة الحدود مع لبنان، حيث تحول عمليات المقاومة ضد المستعمرات الإسرائيلية في الجليل الأعلى دون عودة نحو مئة ألف من المستوطنين إلى منازلهم. مع العلم أن المقاومين في الضفة الغربية كانوا في حال اشتباكٍ متواصل مع قوات الاحتلال قبل اندلاع معركة طوفان الأقصى، وسيواصلون الاشتباك معها حتى لو توقفت الحرب مؤقتاً، وأن وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت سبق أن أكد جهاراً نهاراً، أن وقف الحرب في قطاع غزة لا يعني بالضرورة وقفها ضد المقاومة في لبنان، طالما أن المستوطنين في شمال فلسطين المحتلة غير قادرين على العودة إلى منازلهم. بات واضحاً أن «إسرائيل» ستبقى في حال حربٍ مع الفلسطينيين وحلفائهم العرب في المشرق لسببين:
استمرار «إسرائيل» في حربها الوحشية على الشعب الفلسطيني في كامل وطنه المحتل، أدّى ويؤدي إلى تعميم المقاومة ضدها، وتعميقها في كل المناطق المحتلة
الأول لأنها «تموت إذا توقّفت عن التوسع»، كما أوصاها بذلك مؤسسها ديفيد بن غوريون سنة 1948 والتزم خلفاؤه من بعده تنفيذ هذه «الوصية» طوال السنين الـ75 الماضية.
الثاني طوفان الأقصى الذي شكّل لها، حكومةً وجمهوراً، تهديداً وجودياً يستوجب مواجهةً سياسية وعسكرية متواصلة.
أكثر من ذلك، ازداد شعور الإسرائيليين عموماً بوجود خطر وجودي على كيانهم بعد اندلاع طوفان الأقصى وتجاوب شعوب الأمة بأشكالٍ عدّة مع كفاح المقاومة الفلسطينية وحلفائها. لا غلوّ في القول إن طوفان الأقصى هو أعظم وأجدى حدث في تاريخ العرب المعاصر لكونه أيقظهم من سبات طويل، وفجّر في صفوفهم صحوةً ومقاومةً ستنتج مفاعيل نهضوية عظيمة، يكفي للتدليل على الفارق بين حال العرب قبل طوفان الأقصى وبعده، إدراك ما سبق أن أكّده العالِم الأكاديمي المصري الدكتور شارل عيساوي في كتابه الموثَّق الصادر سنة 1991 بعنوان «تأملات في التاريخ العربي» ومفاده أنه طيلة ألف سنة بعد بزوغ فجر الإسلام حكم بلاد العرب حكامٌ أجانب. فالفرنجة المعروفون خطأً باسم الصليبيين (وهم أوروبيون) حكمونا نحو 200 سنة، والمماليك (وهم تُرك وكُرد وكُرج قفقازيون) حكمونا نحو 350 سنة، والعثمانيون (وهم في غالبيتهم تُرك) حكمونا نحو 450 سنة، والبريطانيون والفرنسيون والإيطاليون (وهم أوروبيون) حكمونا مباشرةً أو مداورةً نحو 100 سنة، فكان أن أنتجوا أو خلّفوا وراءهم حالةً من الركود والخنوع للنفوذ والمصالح الأجنبية حالت وتحول دون انتزاع استقلال العرب من مستعمريهم قروناً وأجيالاً.
الصحوةُ والنهوض إلى الكفاح والتحرر والعمل هي في منطلقها ومعظمها من فعل طوفان الأقصى، لاسيما في بلدان المشرق ما سيؤدي إلى توليد مفاعيل إيجابية وازنة ليس في عالم العرب وحسب، بل في سائر أنحاء العالم. ولا أحسبني مبالغاً إذا قلت إن من أبرز تجلياتها في قابل الأيام ظاهرات خمس:
الأولى: استمرار «إسرائيل» في حربها الوحشية على الشعب الفلسطيني في كامل وطنه المحتل، الأمر الذي أدّى ويؤدي إلى تعميم المقاومة ضدها، وتعميقها في كل المناطق المحتلة، وتنامي الدعم اللوجيستي لها من العرب عموماً كما من إيران، وانعكاس ذلك سلباً على كيان الاحتلال، فتتعمّق الخلافات العقيدية بين اليهود الأشكناز واليهود السفارديم، وبين الاحزاب السياسية الصهيونية المتناحرة، ما يفضي عاجلاً أو آجلاً إلى اشتداد هجرة السكان، لاسيما مزدوجي الجنسية وحَمَلة جوازات السفر الأجنبية إلى مختلف دول أوروبا وأمريكا، بذلك يبدأ تدريجياً أفول الكيان الصهيوني المحتل.
الثانية : تعاظم المقاومة في جميع بلدان المشرق، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن ضد الولايات المتحدة الأمريكية، ما يؤدي إلى إجلاء قواعدها العسكرية من كل بلدان المشرق كما الجزيرة العربية.
الثالثة: تنامي قدرات إيران تكنولوجياً واقتصادياً وعسكرياً، واتجاهها إلى التحالف مع الصين وروسيا وتوسيع تعاونها معهما اقتصادياً، ما يضطر الولايات المتحدة إلى إعادة النظر بسياستها المعادية لإيران، سعياً إلى هندسة سياسةٍ جديدة لحماية مصالحها وتقاسم النفوذ معها في المنطقة.
الرابعة: تهافت تقسيمات سايكس- بيكو مع اتجاه العراق وسوريا والأردن لتعزيز التعاون السياسي والاقتصادي في ما بينهم ببناء سوق مشتركة وصيغة كونفدرالية متطورة نحو نظام فدرالي شأن الاتحاد الأوروبي، ما ينعكس بالضرورة على لبنان ويؤدي إلى بروز ميزان جديد للقوى في الداخل، وتوليف صيغة مدنية ديمقراطية لنظامه السياسي، وتكامل وطيد مع دول المشرق، وانحسار تبعية نظامه الجديد لدول الغرب الأطلسي.
الخامسة: تعزيز المساعي الحثيثة الهادفة إلى تجاوز النظام العالمي الحالي بإقامة آخر متعدد الأقطاب وأكثر توازناً، ما يؤدي إلى تعزيز الالتزام بميثاق حقوق الإنسان، وتوطيد السلام العالمي.
صفحةٌ من التاريخ تُطوى وأخرى تُفتح.
كاتب لبناني
[email protected]