ما الذي يفكر فيه إيتمار بن غفير قبل أن يتوجه للنوم؟ ربما يفكر في أمور تافهة أو مشينة، كثيرون يفعلون ذلك، ربما تجتاحه المخاوف من فضيحة مالية، أو يجمع أطراف مكيدة للإطاحة بأحد خصومه، ولكن الإجابة التي سيقدمها ستكون مختلفة وستشبع ما يطلبه المستمعون من جمهوره السياسي، سيقول، أحلم بالهيكل يهودياً خالصاً.
الهيكل، هو مكان العبادة الرئيسي في التاريخ اليهودي، وأقصى تجليات دولة إسرائيل، وتوجد تفصيلة صغيرة تتعلق بأن الهيكل يفترض أن يقع داخل حرم المسجد الأقصى، وأن القصة هي المسجد أو الهيكل، ومن الصعب أن تكون المسجد والهيكل. بهذا المعنى، فأي مشروع للسلام أو التطبيع مع الحكومة الحالية محكوم عليه بالفشل، لأنه لن يحقق فكرة الدائم، وهو أبعد ما يكون عن مقولة العادل.
لا يمكن التقدم بسلام حقيقي في ظل وجود اليمين المتطرف، وكل ما يمكن هو وجود هدنة طويلة، والدخول بإسرائيل في ورطة الدولة المارقة، لإضعاف هذه الكتلة وترحيلها بصورة تدريجية من المشهد السياسي
أتى اجتهاد طرح السلام الإبراهيمي بناء على إحداث التقارب بين الأديان التوحيدية، بوصفه مدخلاً من أجل تفكيك هذه النزعة، ولكنه تجاهل بكثير من السذاجة أن فكرة الاعتراف بين معتنقي هذه الأديان، أتت نتيجة التعايش على الأرض في ظل الدين الذي يعترف بالدينين الآخرين، فالإسلام بطريقة أو بأخرى لا ينكر اليهودية والمسيحية، والنصوص المؤسسة في الإسلام تستوعبهما، وتمنح أصحابهما معاملة خاصة في البنية الشرعية، والأمر لا يعمل في الاتجاه المعاكس، أي داخل الديانتين الأخيرتين. هذه الكتلة المتطرفة كانت ستدخل عاجلاً أم آجلاً صراعاً مع حركة حماس، وكانت المشاهد التي تحدث في غزة محتملة في أي وقت، والمخيلة الجمعية لليمين المتطرف، تستدعي فصلاً مقبلاً في أريحا، وستكون ذروة الكارثة لو وصلت إلى أريحا، لأن ذلك يعني أن انفلات إسرائيل بترسانة نووية موضوعة تحت تصرف جماعة تجد رسالتها التاريخية في الوصول إلى نهاية التاريخ. الإغراء المتمثل في طريق التوابل الجديد الممتد من الهند إلى أوروبا عبر المنطقة، وسرته في إسرائيل، لا يعني شيئاً لدى المستوطنين، لأنهم مجتمع زراعي مقحم أساساً على الثقافة اليهودية، ولأنهم معتادون على العيش عالةً على منظومة الدولة ومؤسساتها، وغير مبرمجين على الاندماج في نموذج اقتصادي آخر. المحاولات التي بذلت من أجل التقارب مع حكومات إسرائيلية في جوهرها هذه الكتلة، تظهر تبديداً كبيراً للموارد والمعنويات، وأمام الكلام المنمق والدبلوماسي، تختفي حقائق كثيرة، فأي حديث معلن بين الدبلوماسيين يبدو بالمناسبة ساذجاً، وكأنه حديث يدور بين أطفال في مدرسة ثانوية، ولكن من المفترض أن يأتي في مرحلة متأخرة بعد أن يكون العقل المؤسساتي في الدولة قد استنفد جميع إمكانياته في دراسة الموقف، وهو ما لم يتوفر في حالة التطبيع مع إسرائيل في السنوات الأخيرة، الذي أتت محصلته مخيبة للغاية، فالاتفاقيات التي أسست التطبيع فرضت واقعاً متخيلاً، وبعيداً عن ديناميكيات الأرض، وبدأت بعده عملية تقييف غير منتجة لأنها لا تعمل بالطريقة التي تتلاءم أصلاً مع التفكير الديني. لا يمكن التقدم بسلام حقيقي في ظل وجود هذه الكتلة في (إسرائيل) وكل ما يمكن هو وجود هدنة طويلة، والدخول بإسرائيل في ورطة الدولة المارقة، لإضعاف هذه الكتلة وترحيلها بصورة تدريجية من المشهد السياسي، والضغوطات الدولية ستتواصل لإتمام هذه الغاية، التي ربما تستغرق سنوات، لأن المجتمع الدولي غير مستعد للتعامل الصريح مع اليمين المتطرف الإسرائيلي، ولا تقديمه بوصفه المآل الذي وصلته (دولة الكيان). التراجع عن السلام لا يعني بالضرورة حرباً مباشرةً أو حتميةً، ولكن يعني تقديم البدائل الواقعية التي تحيد (إسرائيل) وتقلم أظافرها، والعودة إلى مشروع خليجي ـ مصري يجب أن يقدم في ظل دول مستقرة لا تستنزف نفسها في الصراعات البينية، بحيث لا تصبح (إسرائيل) هي الحلقة الأساسية التي يجب أن تتمركز حولها العلاقات في المنطقة، وعلاقات المنطقة مع العالم، ولا أن تستغل المنطقة ككل في صراع أمريكي ـ صيني، أو أية صراعات أمريكية مستقبلية، أو أن تعيد ترسيم وزنها السياسي في العلاقة مع الأمريكيين، وذلك يتطلب أن تحضر مجموعة عربية واحدة بشكل أو بآخر، والحضور بهذه الطريقة هو الذي يمكن أن ينحي اليمين الإسرائيلي، وأن يضع على أرض الواقع شرطين موضوعيين لا يمكن من غيرهما أن تعيش المنطقة واقعاً مزدهراً يؤهل شعوبها لمرحلة ما بعد النفط، الدولة الفلسطينية كاملة السيادة المتصلة عضوياً مع محيطها العربي في الأردن ومصر، ودولة (إسرائيل) علمانية وواقعية تستطيع أن تتعايش مع الفلسطينيين، وأن تقدم إجابات على التشكل الخاطئ في معادلة الاستعمار القديم، وعدا ذلك، فإن العالم سيبحث عن نقاط ارتباط أخرى، وسيدير ظهره لكل هذه الفوضى.
دفعت غزة ثمناً هائلاً من أجل أن تستعيد الأسئلة الكبرى، ثمنا مرعبا، ولكن لم يكن ثمة مناص منه أو طريق للخروج، وأن يدفع القطاع المحاصر والصغير والمزدحم بالمشكلات والأزمات بالمنطقة إلى هذه الزاوية، أمر يدفع لإعادة التأمل في أفكار كثيرة، ويضطر الجميع للحديث بواقعية وبعقلانية بعيداً عن مغامرات السلام المجاني والتطبيع الذي يمكن تشبيهه بالحب من طرف واحد، ليس أكثر أو أقل، والأزمة الكبرى أن المحبوبة في هذه الحالة (اليمين الإسرائيلي) ليس أكثر من امرأة سيئة السمعة.
كاتب أردني