تعتبر مبادرة الشريك الأدبي، التي استحدثتها هيئة الأدب والترجمة في السعودية مؤخرا، وأشركت فيها كثيرا من المبدعين العرب، مبادرة مهمة للغاية، حيث أنها تنقل أجواء الإبداع والحوار الثري من المنصات الجامدة إلى المقاهي الشعبية، الغاصة بالرواد، من مختلف الأعمار والفئات، والذين يمكنهم المشاركة بالحضور، وبالنقاش على حد سواء.
المبادرة عمادها المقاهي، وقد تزامنت مع انتشار عدد من المقاهي المجهزة نوعا ما بصالات قد تكون واسعة، وقد تكون ضيقة قليلا، لكنها مستعدة لاحتواء الجمهور مع الأدباء الذين تتم مناقشتهم. إنها باختصار عودة للصيغة الجيدة للقاء المبدع بجمهوره، تلك التي كبرنا عليها قبل أن تأتي الإنترنت، وتأتي مواقع التواصل الاجتماعي لتبتلع الفرص الذهبية للحوار المباشر، وتحيل المعنى إلى افتراض سيء، لا أحد يلتقي فيه أحدا، ولا أحد يعرف أحدا بصورة شخصية، ليتحدث معه. وكثيرا ما نفاجأ بأشخاص تعرفنا إليهم افتراضيا، والتقيناهم بعد ذلك مصادفة، مختلفين تماما عن تصورنا، سواء من حيث المظهر أو المحتوى. وقلت مرة، إن التخفي خلف كومبيوتر أو هاتف محمول وصياغة الكلام، تختلف تماما عن المواجهة، والصياغة المباشرة للكلام أمام من تحدثه.
تجربة المقاهي عندي كانت في القاهرة، وهي مدينة تعج بالمقاهي التي لم يضع لها أحد برامج إبداعية لتسير على نهجها، وإنما وجود قامات الأدب في أروقتها، هو ما يشد الجمهور، ويصنع جوا ساحرا للحوار المباشر، وللحديث عن الكتب والتنويه بالإصدارات الجديدة.
صحيح أن الجلسة كانت في الغالب تضم مهتمين بالثقافة والأدب، أو مريدين لكاتب ما مثل نجيب محفوظ، أو شاعر مثل محمد عفيفي مطر وأمل دنقل، لكن هناك أيضا من يأتي منجذبا بشهرة الوجود في أيام معينة لهؤلاء المبدعين، وبالتالي يحدث الحوار المباشر.
الشريك الأدبي، تعميق أو تطوير لتلك الفكرة التي ما زالت موجودة في مصر، وغيرها من البلاد العربية، لكن ليست بالوهج القديم كما ذكرت، وليست بالهمة المطلوبة للمبدعين لإيقاد وهجها بعد أن تعقدت الحياة، وصعبت سبل العيش، وجاء التواصل الافتراضي السهل، الذي لا يحتاج إلى تحرك أو بحث عن مواصلة للذهاب إلى مكان ما.
وكان الروائي المصري وحيد الطويلة، بحكم عشقه للمقاهي والكتابة فيها، حتى عهد قريب، حريصا على جلسة الجمعة في مقهى زهرة البستان في وسط القاهرة، حيث يأتي المبدعون القادرون على المجيء، من مختلف الأجيال، وأيضا يأتي المبدعون الزائرون لمصر، للاستمتاع بجلسات استثنائية شيقة. ولكن يبدو أن تلك الجلسة فقدت انتظامها مؤخرا.
لكن ما الذي تقدمه مبادرة الشريك الأدبي للمبدع، وللجمهور الذي يحضر خصيصا، أو يتصادف وجوده في مقهى ما، وينتظم في الحضور؟
صراحة أعتقد أن ما يقدم كثير جدا، وأهم ذلك حث الناس الذين يطالعون الإعلان عن وجود كاتب ما، في مقهى ما في زمن معين، وينوون الحضور، على قراءة شيء لذلك الكاتب، إن لم يكونوا قرأوا له من قبل، أيضا حث الذين قرأوا، على اقتناء الجديد، من أجل المتابعة، والذين يعرفون الكاتب جيدا، أن يصيغوا دراسات سريعة وملاحظات عن التجربة، لتقديمها أمام الجمهور، ويمكن أن تكون مشاركة المبدع إما بإلقاء محاضرة عن تجربته الإبداعية، أو الإجابة على أسئلة توجه له من المحاور، وإن كان المحاور ذكيا أو مطلعا على التجربة، ترتقي الجلسة بشدة، ثم يأتي دور الجمهور بعد ذلك لتقديم أسئلتهم أو انطباعاتهم.
وكما قلت أن أفضل ما في الأمر، ابتعاده عن الأمكنة الروتينية الجامدة، مثل قاعات المحاضرات المجهزة في الأندية والجامعات، إنها مجرد مقاعد يمكن زحزحتها من هنا وهناك، ويمكن استلافها من أمام رواد المقهى، إن كانت خالية.
ولأن السعودية بلاد واسعة، وفيها تنوع ثقافي، فإن المبادرة تم تعميمها على كل المدن تقريبا، تلك التي فيها مقاهي مستعدة للشراكة وخوض التجربة، ويجزم أصاحبها بوجود جمهور جاهز للحضور. هكذا يمكنك كمبدع مواجهة الحوار في الرياض أو جدة أو الطائف أو المنطقة الشرقية، من خلال تنظيم جيد ومبهر إلى حد ما، ويشجع على أن تتمنى العودة مرة أخرى لأن من ناقشك هنا، كان واعيا وجاء خصيصا بعد أن تسلح بشيء من تجربتك كما قلت.
وقد لفت نظري أثناء مشاركتي في مقاه عدة في المنطقة الشرقية، وجود أسئلة متباينة، كلها عن التجربة، وعن أعمال قرأها أو أحبها السائل، وأيضا عن أعمال قرأها سائل آخر ولم يحبها، أو يراها معقدة، وذكر صراحة ذلك. لكن لم يواجهني أبدا سؤال فوضوي يخفض من المزاج، أو يزعج وجودي، كما يحدث أحيانا في ندوات أشارك فيها. كأن يسألني أحد من دون وعي عن أشياء لا علاقة لي بها على الإطلاق.
كذلك كان الحوار في تلك المقاهي كلها، أدبيا بحتا، لم يتطرق لغير الأدب ولغير التجربة الخاصة.
أود فعلا أن أشيد بمبادرة الشريك الأدبي، والتي أعتبرها بديلا متحضرا للثرثرة وألعاب التسلية في المقاهي، وأتمنى أن تعمم على أماكن كثيرة بحاجة إليها. صحيح أن لا أحد من رواد المقهى ساعة وجود الكاتب فيه مضطر للجلوس في المكان المخصص والاستماع، لكن مجرد وجود نشاط كهذا يشد الجالس لمحاولة المشاركة.
هيئة الأدب والترجمة، بالفعل قدمت أفكارا مهمة في فترة قصيرة، وارتقت كثيرا بمفهوم الأدب والثقافة عموما في السعودية.
كاتب من السودان