مصر وغزة… مسؤولية تاريخية وأخلاقية

حجم الخط
0

ما الذي حدث للعرب؟ ما الذي تغير في الجينات؟ ما الذي تبدل في العقيدة؟ ما الذي طمس على قلوبهم؟ ما الذي عبث بعقولهم؟ بالتأكيد هناك أمر ما، ربما أمور ما أربكت الشخصية العربية، نزعتها من هويتها، أفسدت تكوينها، قلبت موازينها، تسللت إلى الأذن الوسطى لتصيبها بالدوار. الشخصية العربية لم تعد تعي أهمية الأولويات، لم تعد تفطن إلى المصلحة القومية في نطاقها الواسع، ولا حتى المصلحة الوطنية في إطارها المحدود، افتقدت بوصلة الصدق، طريق الحق، فعل الصواب، بالتأكيد المخاض كان عسيراً، بالتالي لن يكون العلاج أبداً يسيراً.
شاهدتُ أحد المسؤولين المصريين، في معرض تعليقه تليفزيونياً، على مفاوضات القاهرة بشأن اتفاق لوقف الحرب بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، فإذا به يؤكد: نحن مجرد وسيط بين الطرفين! نحن طرف محايد! نحن نعمل فقط على تقريب وجهات النظر! فيما يشير إلى أن هناك أمرا ما خطأ لم يعد ممكناً تصحيحه أو التعامل معه، ذلك أنه أمر بدا مزمناً، أشبه بالأمراض المستعصية، أو الأوبئة المميتة، هو موقف يثير الغثيان، ليس أبدا مجرد وجهة نظر، ولا حتى موقف يمكن تجاوزه.
حديث المسؤول المصري عن قضية تتعلق بمستقبل فلسطين، يؤكد أن هناك فيروساً اخترق إعدادات السياسة العربية، هناك مرض نال من العقل العربي، هناك كارثة ألمّت بما يعرف بالتضامن العربي، أو الوحدة العربية، أو الشمل العربي، خصوصاً في ظل هذه الأنظمة السياسية الحالية، التي لم تعد تستطيع مجرد رفع الشعارات، ذراً للرماد في العيون، أو جبراً لخواطر شعوبها، التي تقف على النقيض تماماً في كل القضايا المطروحة على الساحة.
ما أردت التوقف أمامه، هو ما يتعلق بقطاع غزة، وموقف (الشقيقة الكبرى) مصر، في ضوء المعطيات الجارية على الساحة الآن، والتي تتجاهل طوال الوقت، المسؤولية التاريخية والأخلاقية تجاه القطاع، ناهيك من الأهمية الجغرافية والأمن القومي فيما يتعلق بفلسطين ككل، باعتبارها بوابة مصر الشرقية، في ضوء التهديد الحاصل للمنطقة بشكل عام، في وجود ذلك الكيان الجرثومة، الذي لا يخفي أطماعه من الشرق والغرب، والشمال والجنوب، استناداً إلى نصوص توراتية مزيفة وأخرى تخيلية واهمة، باتت معها المنطقة في صراع مسلح، منذ نشأة هذا الكيان وحتى الآن.
تكفي الإشارة هنا إلى أن قطاع غزة عندما احتله الكيان الصهيوني عام 1967 كان خاضعاً للإدارة المصرية وحماية الجيش المصري، بمثابة أمانة أو وديعة، منذ عام 1948، من خلال اتفاقيات، معترف بها من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وذلك بعد أن استقبل القطاع أكثر من 200 ألف لاجئ من أنحاء فلسطين، وظل هذا الوضع حتى أكتوبر/تشرين الأول 1956، حيث قامت قوات الكيان الصهيوني باحتلاله لمدة تقارب الستة شهور، قبل أن تنسحب منه بموجب قرارات للأمم المتحدة، عادت بعدها الإدارة المصرية إلى القطاع في مارس/آذار عام 1957، وظل الوضع كذلك إلى أن أعادت قوات الكيان احتلاله في حرب وهزيمة 1967 .
إذن، وفي كل الأحوال، هناك مجموعة من الحقائق كان يجب وضعها في اعتبار النظام المصري – أي نظام – حال التعامل مع القضية الفلسطينية، وبشكل خاص قطاع غزة، تتمثل في الآتي:
أولاً: نحن أمام مسؤولية مصرية أخلاقية وتاريخية كانت تحتم على الجانب المصري التعامل مع القطاع، كما التعامل مع سيناء سواء بسواء، وذلك بتحمل مسؤولية تحريره من الاحتلال إن حرباً أو سلما، ذلك أنه كان خاضعاً، وقت الاحتلال، للسلطة المصرية مثل سيناء تماماً، إلا أن مفاوضات كامب ديفيد التي قادها الرئيس المصري الراحل أنور السادات، تجاهلت القطاع تماماً باعتباره أرضاً فلسطينية، مع الوضع في الاعتبار أن الخلاف الفلسطيني مع مصر في ذلك الوقت حول مفاوضات السلام، وزيارة الرئيس السادات للقدس عام 1977، كان يمكن أن يقف حائلاً أمام أي محاولات تنسيق مصرية فلسطينية في هذا الشأن.

الأمن القومي المصري يبقى عارياً في عدم وجود دولة فلسطينية مستقلة على الحدود الشرقية، ويبقى في مهب الريح مادام الكيان الصهيوني بلا رادع فلسطيني في المقام الأول

ثانياً: فلسطين في حد ذاتها، قضية عربية إسلامية، تمس الشرف العربي، والعِرض الإسلامي، والكرامة الوطنية، وهو ما يجعل منها قضية كل مواطن عربي ومصري شريف، تتحدد من خلالها شعبياً شرعية كل الأنظمة الرسمية في المنطقة، التي أصبحت في مجملها الآن متهمة بالتواطؤ والخيانة، في ضوء المواقف الرسمية الحالية مما يجري على ساحة غزة بشكل خاص.
ثالثاً: دولة فلسطين هي البوابة الشرقية للدولة المصرية، التي كانت دائماً وأبداً بمثابة حائط الصد، في مواجهة الغزاة، وتكفي الإشارة هنا إلى موقعة «عين جالوت» بفلسطين، وتحديداً غزة، التي انتصر فيها السلطان المملوكي سيف الدين قطز، على جيش التتار بزعامة هولاكو، بما يعني أن غزة هي رأس الحربة المتقدمة في الدفاع عن مصر أرضاً وشعباً، وها هو التاريخ يعيد نفسه من خلال المقاومة الفلسطينية هذه المرة، ولكن لمن يريد أن يعي ويفهم.
رابعاً: بعيداً عن العروبة والإسلام والقومية والوطنية، وما شابه ذلك، فإن حق الجوار يوجب على الجانب المصري فتح الحدود على مدار الساعة لإدخال الغذاء والدواء للجار الفلسطيني أياً كانت هويته، وسوف يجد في ذلك موقفاً دولياً مسانداً إلى أبعد مدى، بمنأى عن موافقة أو رفض الكيان المحتل، ذلك أن القوانين والمواثيق الدولية تمنح مصر هذا الحق، مع الوضع في الاعتبار أن غزة هي الحدود البرية العربية الآسيوية الوحيدة مع مصر، بما يعني أنها جسر مصر العربي مع القارة الآسيوية.
خامساً: يجب أن يتساءل النظام في مصر طوال الوقت عن سر الاهتمام الأمريكي – الغربي اللامتناهي بحماية ذلك الكيان، والذي بدا واضحاً منذ الساعات الأولى ليوم السابع من أكتوبر، ذلك أن الأسبوع الأول من الأزمة شهد زيارات للكيان من قادة كل الدول الكبرى بلا استثناء، أعقبه تدفق للسلاح غير مسبوق أيضاً، وهو ما كان يوجب على الدول العربية، وخصوصاً مصر أن تجاهر بحق الشعب الفلسطيني في الحصول على السلاح، للدفاع عن نفسه، في مواجهة هذه الهجمة الغربية، التي لم تتردد في إعلان دعمها للعدوان.
سادساً: من حق الشعوب العربية والإسلامية، التطوع في صفوف المقاومة الفلسطينية، على غرار ما حدث في أفغانستان عام 1980، أثناء الاجتياح السوفييتي للأراضي الأفغانية، وكانت الأراضي السعودية نقطة انطلاق المتطوعين العرب، على مدى أعوام الاحتلال الثمانية، من خلال ما كان يعرف بهيئة الإغاثة الإسلامية، حتى وإن كان ذلك بتعليمات أمريكية حينذاك، وهو ما يوجب الآن على الجانب المصري – أخلاقياً – فتح الحدود للمتطوعين من المصريين وغيرهم.
سابعاً: قطع العلاقات المصرية مع إسرائيل يصبح أمراً بديهياً في مثل هذه الأوضاع المتأزمة، ذلك أن مصر قد نالها من الضرر الكثير، نتيجة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. تكفي الإشارة في هذا الصدد إلى تحويل مسارات 45% من السفن المارة بالبحر الأحمر إلى طريق رأس الرجاء الصالح، بما يمثل خسارة فادحة لعائدات العبور من قناة السويس، إضافة إلى خسائر قطاع السياحة نتيجة تراجعها هي الأخرى، وتراجع الاستثمارات الداخلية والخارجية.
هذه العوامل وغيرها، كانت مبرراً كافياً يحتم وقف التبادل التجاري والتعاون الأمني مع كيان الاحتلال، حتى الوصول في نهاية الأمر إلى نشر القوات المسلحة المصرية في كامل تراب سيناء، في تمرد صريح على اتفاقية كامب ديفيد، وفي هذه الحالة فقط كان يمكن إجبار ذلك الكيان على وقف العدوان على الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، على الرغم من الدعم العسكري والسياسي الذي يحصل عليه أمريكياً وغربياً.
على أية حال، الكرة سوف تظل في الملعب المصري، ذلك أن الطريق مازال طويلاً، خصوصاً مع التهديدات الإسرائيلية المتعاقبة لمصر، على لسان وزراء متطرفين، لا يتورعون عن الحديث حول أحقية الكيان في شبه جزيرة سيناء، وإصرارهم على ترحيل فلسطينيي قطاع غزة إلى داخل الحدود المصرية، وتأكيدهم على حتمية الصدام مع مصر، وذلك بالتزامن مع استفزازات حدودية متتالية، وأخرى في المحافل الدولية، على غرار الاتهامات التي طالت النظام المصري في محكمة العدل الدولية، والقلق من حصول مصر على أسلحة متطورة، وحث الإدارة الأمريكية على الحد من ذلك، وغير ذلك من كثير.
في كل الأحوال، فإن الموقف المصري بطبيعته الحالية، يظل مثار انتقادات شعبية، داخلية وفلسطينية وعربية، خصوصاً بعد تصريحات وزير الخارجية الأخيرة سامح شكري بشأن انتقاده الفج لحركة حماس. في المقابل يجد هذا الموقف تشجيعاً من دول الغرب لأسباب معلومة سلفاً، وقد تمثل هذا التشجيع في تسهيلات من صندوق النقد للحصول على قروض، رافقها ضخ دولة الإمارات مزيد من الأموال لشراء مزيد من الأصول، ومزيد من الاستثمارات السعودية، إضافة إلى زيارة للرئيس التركي للقاهرة بهدف إزالة الجفاء.
على الرغم من ذلك، فإن الأمن القومي المصري يبقى عارياً في عدم وجود دولة فلسطينية مستقلة على الحدود الشرقية، ويبقى في مهب الريح، مادام الكيان الصهيوني بلا رادع فلسطيني في المقام الأول، وهو الأمر الذي كانت تدركه الأنظمة المصرية المتعاقبة، وتتعامل معه بحجمه وبما يليق، إلى أن كان ما كان، لتظل الأسئلة التي طرحناها حول متغيرات العقيدة العربية لدى الأنظمة الحالية بشكل عام تبحث عن إجابات.
كاتـب مصـري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية