على الرغم من ارتفاع منسوب التنسيق بين أذربيجان وتركيا في السنوات الماضية، وتطور العلاقات بينهما والتنسيق في السياسة الخارجية والتعاون العسكري والتقني والدفاعي، إلاّ أنّ الحرب في قطاع غزة قد تسبّبت بتباعد بين باكو وأنقرة، أطلقت شرارته شحنة أسلحة ضبطتها الشرطة الإسرائيلية على الحدود مع الأردن، وأوقع خلافاً وتبادل تهم بين الطرفين لم يظهر إلى العلن.
كيف بدأ الخلاف؟
تلك الشحنة، كانت سبباً لبداية ظهور الاختلاف في وجهات النظر بين أذربيجان وأنقرة بشكل فاقع. إذ تعود القصة إلى شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، يوم كشفت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية في تقرير نشرته باللغة العبرية، تفاصيل تلك الشحنة.
في حينه قالت الصحيفة إنّ الشرطة الإسرائيلية ضبطت شحنة أسلحة قبل دخولها إلى الضفة الغربية في ما يبدو، بينما كانت تلك الشحنة تتجه من الأردن إلى الداخل الفلسطيني، وهي عبارة عن 137 قطعة سلاح ناري، منها 120 مسدساً و17 بندقية هجومية من طراز M16، فضلاً عن نحو 250 خزنة خراطيش مسدسات ورشاشات مخزنة في أكياس، تُقدّر قيمتها الإجمالية بنحو 1.6 مليون دولار، وكلّها ممهورة بعبارة: “صنع في أذربيجان”.
الصحيفة العبرية كشفت أيضاً، أنّ الشرطة الإسرائيلية صادرت في تلك العملية سيارتي جيب “لاندكروزر”، وسيارة “تويوتا كورولا”، كانت تستخدمها المجموعة التي تولّت عملية نقل الأسلحة.
وبعد العملية أعلنت الشرطة الإسرائيلية أنّها اعتقلت مجموعة من 4 أشخاص، قالت إنّهم المهربون المتورطون بالشحنة وهم من بلدة يروحام الإسرائيلية، وتراوح أعمارهم بين 20 و30 عاماً، كاشفة أنّ الوحدات الخاصة في منطقة النقب حققت مع هؤلاء، وتواصل محكمة شالوم في بئر السبع اعتقالهم.
أكبر عملية تهريب
وكذلك أكدت إسرائيل أنّ تلك الشحنة كانت “أكبر عملية تهريب على الحدود مع الأردن”. كما أوضح ممثلو الشرطة الإسرائيلية أنّ أنواع الأسلحة النارية التي تم ضبطها هي أنواع الأسلحة نفسها التي يمتلكها الفلسطينيون الذين نفذوا هجوماً في القدس صباح 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، وكذلك تلك التي امتلكها فلسطينيون ألقي القبض عليهم في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) في جنين.
وادعت أيضاً أنّ تلك الأسلحة بعضها مُصنّع في أذربيجان، مرجحة أن تكون تلك الأسلحة قد نُقلت عبر إيران إلى سوريا، ثم بعد ذلك إلى الحدود الأردنية مع إسرائيل.
وكادت هذه الحادثة أن تفجّر العلاقات بين تل أبيب وباكو، التي نفت ضلوعها بالعملية وأجرت تحقيقات معمّقة شملت الأرقام التسلسلية لتلك الأسلحة.
وأظهرت التحقيقات أنّ تلك الأسلحة غير مُنتَجَة في أذربيجان ولم تخرج من أراضيها، وإنّما هي تركية المصدر!
ولم يُعرف المزيد من التفاصيل حول تلك العملية، كما لم تُوضح تركيا أي تفاصيل حول هذا الأمر أو تنفي التفاصيل التي كشفها الإعلام الإسرائيلي.
لكنّ الافتراضات التي بُنيت حول تلك العملية، قدّرت أنّ تكون أنقرة كانت مهتمة بمساعدة الفلسطينيين بداية الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة. لكنّ في الوقت نفسه، يبدو أن أنقرة شعرت بالإحراج من إرسال أسلحة بشكل مباشر، ولهذا اختارت أن تقدم ذاك الدعم العسكري “تحت لواء أذربيجان”.
وتقدر أوساط متابعة ومطلعة على تفاصيل هذا الملف، أنّ أنقرة ربّما افترضت أنّ هذا الأمر قد يقلّل من مخاطر تأزّم علاقاتها مع تل أبيب (هي مأزومة أصلاً)، وفي الوقت نفسه ربّما يخلق واقعاً جديداً يهيئ الظروف من أجل إحداث انقسام في إسرائيل يقود نحو تراجع الحوار الأذربيجاني ـ الإسرائيلي، أو يؤدي إلى وقف التعاون بينهما.
وفقا للصورة التي نسجتها لنفسها كـ”زعيم” و”عرّاب” للعالم الإسلامي، تقف تركيا منذ بداية الحرب في غزة إلى جانب فلسطين، وتسجّل إدانة حادّة لتصرفات تل أبيب بحق الفلسطينيين. بينما تفعل أذربيجان العكس، وتقف إلى جانب إسرائيل كنتيجة للعلاقات الوثيقة وطويلة الأمد التي تربط الجانبين.
هذا الاختلاف الأساسي في وجهات النظر بين باكو وأنقرة حول القضية الفلسطينية، يعيد اليوم طرح النقاش حول علاقة حليفين مثاليَين في “العالم التركي”، الذي تحاول أنقرة أن تبنيه تحت رعايتها، وكذلك حول تأثير هذا الأمر على احتمالات التقارب بين أنقرة من جهة وبين دول آسيا الوسطى… ما يقود النقاش برمّته حول العلاقات بين منظمة الدول التركية، ككلّ، إلى مكان قد لا يكون من مصلحة أنقرة.
وقد بدأت بالفعل نخبٌ سياسيّة في دول آسيا الوسطى، تلاحظ أنّ العلاقات مع تركيا تسير اليوم وفق “نهج أحادي” تسعى من خلاله أنقرة إلى “تحقيق أهدافها الجيوسياسية العثمانية الجديدة” في تلك المنطقة المحورية، وذلك بشكل منفرد. وهو ما تعتبره تهديداً لكل الجهود التي تبذلها تركيا من أجل جمع دول آسيا الوسطى والشعوب ذات الأصول التركية تحت لوائها.
فهل تشهد العلاقات بين آسيا الوسطى وتركيا فصلاً جديداً يُقوّد تلك العلاقات ويتسبّب بتراجعها؟
كاتب لبناني