الثورة مستمرة… درس التاريخ

لقد وقعنا في خطأ كبير ونحن نحلل الثورات الأخيرة في المنطقة، حينما درسناها بمعزل عن صيرورتها التاريخية وأرّخنا لميلادها بثورة تونس.
الصيرورة التاريخية أعني بها وضع الحدث في سياق مترابط من عدة أحداث مماثلة وتراكمات قد تتجاوز الحدود الزمانية والمكانية، لتتموضع في مسار التجربة البشرية الكبيرة والممتدة عبر العصور والقرون.
حتى أولئك الذين انتبهوا إلى وجود ثورات في المنطقة سابقة لثورة تونس كالثورة السودانية ضد حكم الرئيس إبراهيم عبود في أكتوبر 1964، ثم ضد الرئيس جعفر نميري في إبريل 1985، فقد توقفوا هنا ولم يربطوا هذه الأخيرة بثورات قبلها كالثورة المهدية والليبية والجزائرية وغيرها من مشروعات التحرر في التاريخ الحديث.
بالنسبة للسودان فإن تجاهله يعود في نظري، وقد أكون مخطئاً، إلى عدة أسباب منها، أنه جرت العادة على أن يكون السودان هو المنسي دائماً، حيث لا ينظر كثير من السياسيين والمثقفين العرب له كجزء أصيل من المنطقة العربية، رغم انضمامه إلى الجامعة العربية منذ وقت مبكر، وهو ما سنجده بشكل أقوى وأوضح عند الباحثين الغربيين، الذين يضعون الدراسات حول السودان ضمن تخصص الدراسات الأفريقية، لا ضمن دراسات المنطقة العربية أو الشرق الأوسط. السبب الآخر هو أن الثورة السودانية الأخيرة كانت قبل أكثر من ربع قرن من الثورات العربية التالية، وهي فترة كافية لعدم الربط بينها وبين أخواتها، وفي هذا بالتأكيد قصر نظر، حيث أن مسيرة التاريخ لا تقاس بهذه الطريقة المتسرّعة، ولا يمكن لصاحب الذاكرة القصيرة أن يقدم أي رؤية موضوعية مفيدة، فماذا تعني عشرون أو ثلاثون عاماً؟ إنها مجرد نقطة في بحر التاريخ. يمكن أن نقول إن هناك طريقتين للنظر لأحداث الماضي، الأولى هي اعتبارها مجرد أحداث مضت وانتهت، والثانية اعتبارها سلسلة من الأحداث المستمرة التي يغذي بعضها بعضاً.
أنا من أنصار الأخيرة التي تحقق معنى العبارة التي نحفظها جميعاً: التاريخ يعيد نفسه. على سبيل المثال فإنه عند دراسة الثورات عبر التاريخ سنكتشف أنها تفشل للأسباب ذاتها، أي حينما تنسى الجماهير التي قامت من أجلهم واكتسبت شرعيتها بالدعوة إلى تحقيق مطالبهم. فشلت الثورة المهدية، كما فشلت ثورات الربيع.. وهنا قد يقول قائل إن المهدية لم تفشل، بل استطاعت اسقاط الخرطوم وقتل حاكمها غردون وتكوين دولة مترامية مما يعني، بالضرورة، تغيير النظام الفاسد، الذي جمع بشكل غريب بين الاستغلال الأوروبي والاحتلالين المصري والتركي. لكن العبرة وتقييم النجاح إنما يكمن في الخواتيم، حيث لم يؤد النجاح الظاهري إلا لقيام دولة هشة يقوم مشروعها على معاداة العالم، كل العالم، بمن فيه المسلمون الذين يتوجب عليهم أن يبايعوا المهدية كممثل شرعي ووحيد للخلافة الإسلامية أو أن يكونوا في صف الأعداء. هكذا أمضت الدولة المهدية عمرها القصير الذي لم يتجاوز أربعة عشر أو خمسة عشر عاماً في حالة من الحرب الدائمة التي وقودها شعب فقير ومنهك ومتورط حتى النخاع في معارك غير عادلة ولا متكافئة حتى تسلمها الإنكليز مرة أخرى لقمة سائغة.
بالقدر نفسه فشلت الثورات العربية حينما نسيت مشروعها وعادت لتتحالف مع أعدائها، وهنا موضع المقارنة، حيث تفشل الثورات حينما تقطع الطريق على نفسها متجاهلة وصايا المخلصين ورغبتهم في إكمال طريق الحرية والكرامة.. تفشل الثورات حينما تقوم بتغليب صوت الجماعة أو الطائفة العرقية أو السياسية، أو تفشل حين تعود لتتعاون مع الرموز القديمة لتنتهي بالتدريج كمجرد نسخة منقحة من النظام السابق. العبرة ليست بالتغيير الظاهري، بل بالنهايات. المثال الأكبر لذلك هو أن الثورات والنضالات الكبيرة التي أخرجت المستعمر في الدول العربية والأفريقية وفي أنحاء متفرقة من العالم سرعان ما أنتجت أنظمة فاسدة وشعوباً حانقة ينظر معظمها للاستعمار بعين الحنين.
التاريخ سيحدثنا عن «الفلول» وعن «الثورة المضادة»، وعن استغلال الإعلام منذ الثورة الفرنسية ومن تأثر بها من دول داخل وخارج أوروبا، كما سيحدثنا عن الثورة الروسية التي كانت من أهم الأحداث في القرن العشرين.
الثورتان الفرنسية والروسية جمع بينهما الاجتثاث العنيف للنظام الملكي القديم ولرموزه، ابتداء من الأسرة الحاكمة وانتهاء بجميع من أيدوها، لكنني سأتجاوز التساؤل عن ضرورة فكرة «الاجتثاث» من أجل نجاح الحركة الثورية، لأتوقف قليلاً عند جوانب أخرى من الثورة الروسية التي كانت مهمة لأنها أقامت دولة مستندة إلى الفكر الشيوعي الذي اعتبر، من فرط انتشاره، كأنه بمثابة دين رابع بعد الأديان السماوية. لكن هناك سببا آخر يجعل من هذه الثورة مثار اهتمام للدارسين والباحثين، كونها أنتجت القطب الذي سيظل لمعظم القرن الماضي الغريم الأساسي للمشروع الغربي وللمدرسة النيوليبرالية والرأسمالية.
الثورة الروسية كانت قد استفادت من أفكار كارل ماركس المرتبطة بالطبقة العاملة، التي تعتبر أن العمال هم وقود التغيير ولذا فهم الأهم، لكنها استفادت بدرجة أولى من الثورة الفرنسية، التي كانت ثورة على الملكيات الأوروبية التي كانت تجعل الناس عبيداً لها أو في حكم العبيد. وبين ماركس صاحب الأفكار المجردة الذي لم يتوقع أن تنمو في روسيا، والذي رحل في نهايات القرن التاسع عشر، ولينين الذي سوف يرتبط اسمه بالجمهورية الروسية الشيوعية كانت هناك حلقة سيعمل الجميع على تجاهلها، وهي حلقة المفكر الشاب والثائر منذ شبابه المبكر: ليون تروتسكي.
تروتسكي المولود في أوكرانيا والذي نشط في مجال الأفكار والسياسة والتحريض على الثورة منذ مراهقته سيكون عدو القيصرية الروسية لكنه، وكما سنكتشف، سيكون عدواً أيضاً للدولة الشيوعية التي سوف تحاول أن تمحو اسمه بكل قوتها من دفاتر الثورة. المفارقة هنا أن تروتسكي كان مؤمناً بثورته أكثر من لينين نفسه ومن الرفاق الذين سيركبون لاحقاً أمواج الثورة فهو من عمل بجد وسط العمال محرّضاً ومثقفاً، مما جعله يعلَن خطراً على النظام فيعتقل وهو ابن العشرين لعامين قبل أن ينفى إلى مجاهل سيبريا.
كل ذلك وغيره لن يشفع له عند من سيحاولون لاحقاً قطع تعلق الناس به وبطريقته البليغة في الحديث والخطابة ليصوروه مجرد متسلّق قفز على ثورة لم يكن أساساً فيها. إن هذا يذكّر بما يحدث كثيراً إبان الثورات الكبرى التي نجد فيها أن الإجراءات الأولى إنما تكون تصفية رفاق الأمس وشركاء النضال، المثال الأكبر هنا هو ثورة 52 المصرية التي ارتبطت باسم جمال عبد الناصر، رغم أنها ما كانت لتقوم لولا الدور الذي لعبه اللواء محمد نجيب الرئيس الأول لمصر، الذي تم تغييبه تدريجياً عبر التركيز على «الزعيم» كبطل وحيد. ستالين فعل ما هو أكثر حين تعمّد حذف صور تروتسكي وحين أوصى بعدم الإشارة إليه في جميع الأعمال الأدبية والفنية التي تناولت الثورة.
تروتسكي كان مهماً بالنسبة للثورة الروسية لإيمانه بالماركسية أولاً، ولأنه صاحب نظرية «الثورة الدائمة» التي تهدف إلى مواصلة النضال حتى تحقق جميع المطالب التي قامت لأجلها، والتي سوف تنتقل بعد قرن كامل إلى العالم العربي تحت اسم «الثورة المستمرة»، مما يشير لامتلاك المجتمعات البشرية عقلاً باطناً مشتركاً.
تروتسكي أيضاً كان الرجل الذي لولاه لما تكون ما سيعرف لاحقاً بـ»الاتحاد السوفييتي» ولما انتشرت الشيوعية والاشتراكية كتحالف كبير ضم نصف العالم أو أكثر. من خلال انتقاله إلى لندن في بدايات القرن العشرين ولقائه هناك بـ»لينين» قام تروتسكي بتعميق أفكاره أكثر والسعي لنشرها في الداخل الروسي، وهناك ظهرت «البلشفية» التي تعني الأكثرية من المناضلين المؤمنة بالتغيير الثوري القوي والتي ستأخذ الثورة لاحقاً اسمها.
من دروس الثورة البلشفية أنها لم تقم بين يوم وليلة وأنه سبقتها ثورات أخرى واحتجاجات كبرى عبر العقد الأول وبدايات الثاني من القرن وفي كل مرة، ورغم مرارات الفشل وشدة القمع، كانت تترسخ لدى الثوار تلك الفكرة التي تنادي باستمرارية الثورة، خاصة مع تردي الأوضاع الاقتصادية والفساد والطغيان. ومن دروسها أنها لم تجمع الشيوعيين المؤمنين بأفكار ماركس فقط، بل لجأت لتلقي الدعم من جميع الحانقين والراغبين في التغيير، وهم الأكثرية بالتأكيد خاصة في بدايتها. لكن من دروسها أن تروتسكي الذي قاد العمل الميداني كما قاد «الجيش الأحمر» الذي سيقود الثوار إلى إسقاط القيصر وتشكيل حكومة من أطياف مختلفة (وهي الحكومة الأولى قبل تلك التي ستكون شيوعية خالصة).. ذلك الرجل سوف يلقى مصرعه في المكسيك التي سيلجأ إليها حينما لا يجد مكاناً في دولته التي سعى لإقامتها.. سيلقى مصرعه على يد عميل أرسله ستالين الذي لم يكتف بإلغاء صورته ودوره من التاريخ الروسي بل عمل على تصفيته وإخفائه بشكل تام. هي نهاية تراجيدية بالتأكيد، لكنها متكررة..
وهل يختلف الاغتيال بهذه الطريقة عن اغتيال الشخصيات التي شاركت في الثورات العربية معنوياً، عبر تشويهها واتهامها بالخيانة والعمالة، أو مادياً عبر إحالتها إلى قضاء فاسد من أجل الحكم عليها بالإعدام..؟

٭ كاتب سوداني

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية