في العراق لا تستطيع ان تعرف شيئا بشكل قاطع، فكل شيء ينتظر التأكيد او النفي، او المزيد من التفصيل، او يحتاج شيئا من التروي. من قتل عزت الدوري؟ ما ظروف قتله؟ هل سيقتحم الحشد الشعبي مدينة الموصل ام سيكتفي بحصارها؟ ما مصير هذا الحشد الذي تسابق السياسيون لتشكيل مجموعاته المسلحة لكي لا يكون خارج المنافسة السياسية؟ هل ان قوات التحالف تقوم فعلا بقصف قوات داعش ام تسعى للحفاظ على توازن القوى في بلد لا تتمنى ان يكون متماسكا وقويا؟ ما الذي ناقشه رئيس الوزراء مع ادارة اوباما في زيارته الاسبوع الماضي؟ هل حقا ان العراق مكتظ بالقوات الإيرانية التي جاءت للمشاركة في التصدي لداعش؟ ام ان عددهم كما ذكر الدكتور حيدر العبادي لا يتجاوز الـ 110 فحسب؟ العراق يعيش هواجس عديدة، كما هي اغلب دول المنطقة، وما ذكر اعلاه انما يمثل جزءا يسيرا من تلك الهواجس. العراق خرج من البند السابع قبل اقل من عامين، ولكنه لا يزال مرتهنا لما يشبه الحصار الدولي خصوصا في الجوانب الدفاعية. فلا يستطيع الدفاع عن نفسه لانه يفتقر لسلاح الطيران بعد ان دمرت قوات التحالف كافة الامكانات العسكرية بدعوى البحث عن اسلحة الدمار الشامل. فهو بلد مستباح، تحتل القوى المتطرفة ثلث اراضيه تقريبا، وتنهب نفطه لتبيعه باثمان زهيدة في الاسواق السوداء، فلا يستطيع التصدي لها بكفاءة. وبرغم «الانسحاب» الامريكي العسكري، لا يستطيع حكامه اتخاذ قرار مهم كاقتحام المدن التي تسيطر عليها داعش بدون موافقة امريكية.
لا تستطيع وانت تتحدث للمواطنين الا ان تدرك محورية الدين لدى هذا الشعب. فداعش تحكم الشمال الغربي «السني» باسم الإسلام، والنصف الجنوبي من العراق الذي تقطنه الاغلبية «الشيعية» ينتظر دائما الاوامر الدينية التي تصدر عن المرجعية الدينية في النجف التي يمثلها آية الله السيد علي السيستاني. ومع ان هذه الشخصية الكبيرة قليلة الكلام او الظهور الا ان مواقفها كثيرا ما انقذت الحكومات المتعاقبة من الانهيار، وحمت البلاد من نيران الفتنة المذهبية. صحيح ان الفتنة لم تنطفىء تماما، الا ان نتائجها الكارثية كانت مرشحة ان تكون اضعاف ما حدث. فبرغم الشحن الطائفي المتبادل ما يزال العراقيون يتوقون لبلد موحد محكوم من ابنائه على اختلاف مذاهبهم واذهانهم بمسؤولية وروح عصرية ووطنية ومساواة امام القانون. فالازدحام الذي يحدث في اوقات الصلاة في محيط جامع الامام ابي حنيفة بمنطقة الاعظمية في بغداد يشبه ما يحدث بمنطقة الكاظمية التي لا يفصلها عنها سوى نهر دجلة، عند محيط مسجد الامامين الكاظم والجواد. انه مشهد مألوف يصر العراقيون ان بالامكان تعميمه على كافة مناطق العراق لو ترك اهله وشأنهم بدون تدخلات خارجية او محاولات لتفتيت الشعب وفق خطوط التمايز الطائفي او تقسيم البلاد إلى اقاليم متنازعة.
برغم ذلك فان هذا البلد الكبير ما يزال ينزف دما، وتراوده الخشية من مزيد من الفرقة والشتات. بل ان شبح التقسيم لم يبارح سياسييه الذين عجزوا عن تبديد تلك الهواجس. فعلاقات اقاليمه يشوبها الحذر والشك والحيطة خصوصا وتهيمن عليها المحاصصة التي تعوق قيام منظومة ديمقراطية حقيقية. كما تحتوي شعبه مشاعر الغضب والحزن يوميا حين تتناقل وكالات الانباء خبر مقتل العشرات من ابنائه بتفجيرات عبثية او بمواجهات في الشمال الغربي الذي وقع اغلبه تحت سيطرة تنظيم داعش. وهنا يمكن القول ايضا ان من الصعب معرفة الحقيقة من الغثاء. فهل العراقيون السنة الذين يعيشون تحت حكم ذلك التنظيم راضون بقدرهم ام يسعون لتغييره. دعاوى متناقضة لمن يقول «ان المناطق السنية اصبحت حواضن للمجموعات المتطرفة خصوصا تنظيم داعش» ومن يدعي ان العراقيين السنة يدفعون ثمنا باهظا لوقوعهم تحت حكم داعش، على صعيد الحريات الفردية والتطبيق المرعب للحدود الشرعية من وجهة نظر القائمين بها. ولقد كان مشهد المداخل الشمالية لمدينة بغداد وهي مكتظة بالمواطنين السنة الهاربين من الانبار في إثر انتشار انباء باقتراب داعش من المدينة، مدهشا جدا ومثيرا لشكوك البغداديين، وبعد التردد اتخذت السلطات قرارا بالسماح للنساء والاطفال وكبار السجن بدخول المنطقة، وطالبت الشباب بالعودة للدفاع عن مدينتهم. هؤلاء النازحون الذين قدرت الامم المتحدة عددهم بـ 90 لم يترددوا في الخروج هربا بانفسهم واعراضهم من المجموعات المتطرفة التي اقتحمت مدينتهم فاصبحت مهددة بالسقوط بايدي المتطرفين.
مدلولات وتفسيرات عديدة لذلك اهمها الخوف العميق لدى مواطني المناطق الشمالية والغربية من الوقوع تحت سيطرة داعش، ومحاولة الهرب من ذلك باية وسيلة. ثانيها: الحالة النفسية التي تصيب من يسمع باقتراب مجموعات داعش من المناطق التي يقطنها، فسرعان ما تمثل امامه مشاهد الذبح والمحاكم «الشرعية» التي تصدر الاحكام جزافا وتنفذها على الفور. ثالثها: ان الحشد الشعبي الذي دعت اليه المؤسسة الدينية في النجف ليحمي المدن التي تحتوي اضرحة الائمة من آل البيت في كل من كربلاء والنجف والكاظمية ما يزال يواجه صعوبات عديدة، سواء على صعيد الاعداد العسكري ام التسليح ام التدريب ام وضوح الهدف وتوفر المهارات القتالية اللازمة لمواجهة دموية مع واحد من ابشع المجموعات التكفيرية عنفا وشراسة. رابعا: ان الشكوك تساور السياسيين من سرعة النزوح هذه معتقدين انها لا تخلو من محاولات للاخلال بالتوازن الامني والسكاني للعاصمة. ايا كان الامر فمن يشاهد ذلك الاكتظاظ المروري يشعر انه يقرأ فصلا آخر من مسلسل درامي متواصل لا تنفك حلقاته عن بعضها، يهدد بتغيير انماط حياة المواطنين من سنة وشيعة.
وفيما يواصل المواطنون متابعتهم لما يجري في ساحات القتل، فان البطء او التباطؤ في اقتحام المدن الكبرى في الموصل والانبار، حسب ما هو شائع في الشارع العراقي، ناجم عن ضغوط غربية لمنع ذلك الحشد الشعبي من اقتحام الموصل، بناء على طلب شيوخ عشائرها الذين طلبوا من واشنطن ذلك، وطالبوها بحمايتهم. ويتردد في الاوساط الخاصة ان استعادة السيطرة على تكريت تمت بصفقة مع الامريكيين وتضمنت بنودا اهمها ثلاثة: تسليم المدينة بدون قتال، وتسليم عزت الدوري للسلطات، والسماح لعناصر داعش بالخروج من المدينة بعد ان حوصرت من جميع الجهات. كما ان هناك من يربط بين حماس الشباب للالتحاق بها الحشد الذي دعت المرجعية الدينية في النجف لتشكيله، وتصاعد نسب البطالة في واحد من اكبر البلدان النفطية. وتتراوح نسبة البطالة ما بين 25 و 35 بالمائة، وهي من اعلى النسب في الشرق الاوسط. ومع ان اغلب المسارعين للالتحاق بالحشد الشعبي انطلق من الشعور بالواجب الديني والوطني، فان بعضهم اعتبرها وظيفة تؤمن لعائلته دخلا يستمر حتى لو قتل في الحرب ضد داعش. ويتوازى مع سخونة الجبهة الشمالية حوادث التفجير في بغداد والمدن الاخرى. ولكن الملاحظ هنا ان معدل هذه التفجيرات انخفض كثيرا في الاسابيع الاخيرة. ويتردد ان من اسباب ذلك تصاعد قدرات اجهزة الامن العراقية في رصد المجموعات الإرهابية وقدرتها على القيام باجراءات استباقية لاعتقال عناصرها، وهذا ما حدث الاسبوع الماضي، حيث اعتقلت خلية كاملة في بغداد يتجاوز عدد افرادها العشرين شخصا. برغم ذلك فان تلك الاجراءات الامنية تعوق حركة السير كثيرا بسبب نقاط التفتيش الدقيقة عند مداخل المدن والمساجد والاماكن الاثرية. ويساور العراقيين، خصوصا الطبقة المثقفة منهم، غضب شديد لما يرونه من استباحة لتراثهم الانساني وما يتصل بالحضارات القديمة التي انطلقت من ارض الرافدين، خصوصا بعد تفجير منطقة «نمرود» الاثرية خارج مدينة الموصل.
ولذلك استقبل خبر مقتل عزت الدوري، نائب رئيس العراق السابق، صدام حسين، ليعزز ثقة العراقيين بقدرتهم على التصدي لملفات العنف الدموي. فالدوري كان رمزا لمجموعات متباينة في المنطلقات الايديولوجية والدينية. فهو احد اقطاب الطريقة النقشبندية الصوفية التي تنامت في السنوات الاخيرة من العهد السابق، وهو احد زعماء حزب البعث المنحل، الذي تتهمه السلطات بدور اساسي في اعمال التفجير من جهة، والسعي لجمع شمل المجموعات القتالية المختلفة في منطلقاتها الايديولوجية من جهة اخرى. وقد استعصى الدوري على محاولات الاعتقال منذ سقوط النظام السابق قبل اثني عشر عاما، واستطاع بناء جبهة عريضة لمشروع عنف غير مسبوق في المنطقة. وكان الدوري حلقة وصل مع فروع حزب البعث في العديد من الدول. فهو يمثل الجانب «الايماني» من الحزب في العراق، فيما يمثل يونس الاحمد جناحه العلماني. كما كان حلقة الوصل مع رموز البعث في البلدان العربية الاخرى، مثل عبد المجيد الرافعي في لبنان، وقاسم سلام في اليمن، وبدر الدين مدثر في السودان الذي توفي في 2006، وغيرهم.
عدم القدرة على معرفة الحقائق في العراق يمتد لدهاليز السياسة المتداخلة. فمنذ ان اصبح الدكتور حيدر العبادي، رئيسا للوزراء ساد الشعور بان البلاد تتجه نحو الاستقرار والتعايش السلمي بين مكوناته العرقية والدينية والمذهبية. وبرغم نجاحه في تشكيل حكومة تمثل النسيج الوطني، لا يمكن عزل العراق عن محيطه الاقليمي الذي تعصف به رياح الفتنة السياسية والمذهبية، التي تصاعدت بعد الحرب السعودية على اليمن. ولا يعدم زائر العراق مشاهد الدعم الشعبي للشعب اليمني من خلال اليافطات المعلقة في الشوارع او الحديث في المقاهي والمجالس ووسائل الاعلام. ونظرا لصعوبة معرفة الحقيقة طرحت تساؤلات عديدة حول زيارة العبادي لواشنطن. فقد اعلنت واشنطن دعمها العراق في مواجهة داعش، ولكن بدون ضمان تطوير امكانات الجيش العراقي. فما تزال واشنطن مترددة في تزويد العراق بطائرات اف 16 او اطلاق اليد لحشدها الشعبي وجيشها لاقتحام المناطق الواقعة تحت سيطرة داعش خصوصا الموصل. الهواجس تتصل بمستقبل العراق ونظامه السياسي، فما مصير الميليشيات بعد انتهاء الفصل الحالي من الصراع مع داعش؟ وهل يستطيع العراق بناء جيش حديث مجهز بما يؤهله للحفاظ على وحدة البلاد وامنها؟ هل سيظل العراق موحدا ام ستتجه اقاليمه للانفصال؟ تساؤلات كثيرة لا يلغيها التوافق الوطني الذي ظهر حول شخصية الدكتور حيدر العبادي، وما لم يقرر العراقيون انفسهم تمردهم على نزعات الانفصال ويعمقوا الانتماء لبلد الحضارات المتعاقبة، فسيظل العراق اسيرا للتكهنات والتدخلات والعصبيات.
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
د. سعيد الشهابي
شكرًا لكاتب المقال
بإختصار ، منذ يوم ١٤ تموز ( يوليو) ١٩٥٨ ، لم تدار أمور الدولة العراقية والمجتمع بالحد الأدني من الحصافة والحكم الرشيد
ومع كل التراكمات عبر مئات السنين ، فقد انتهي العراق تحت قبضة شلة من ابنائه . نعم ، فصدام حسين ورهطه لم تصدرهم لنا أمريكا . وانا اقولُ بكل ثقة ، لو كان الإسلاميون او غيرهم في السلطة في الستينات والعقود التي بعدها ، لتسببوا بخرابٍ مماثل لما حل علي أيدي البعث ….فالأرض والتربة هي نفسها
مع شديد الأسف لم يكن الغزو والأحتلال ٢٠٠٣ إلا الدواء المر والقاتل للمرض الذي أُصبنا به علي أيدينا ، ومع شديد الاسف هلّل ، وبرّر ، وطبّل لذلك الغزو الإجرامي الكثير من العراقيين …لقد كانت عندي القناعة ، منذ ان شاهدت رجالاً معروفين وهم يبررون الاحتلال والغزو القادم بمقولات غيبية ، مثل أن الظالم سيف بيد الخالق ، يضرب به ، أن صدام حسين بأعماله قد منح الخيانة ثوبا ابيض ترتديه ! ……هذه هي الحقيقة
أين سبيل الخروج ، لا أحد يعرف ! …