موت النقد أم موت الناقد

حجم الخط
0

لا يمكن أن أسلم بأيّ شكل من الأشكال أن الناقد البريطاني رونان ماكدونالد، صاحب كتاب «موت الناقد» وهو أكاديمي بريطاني تخرج من جامعة ريدنج، ويعمل أستاذا بجامعة نيو ساوث ويلز بسيدني في أستراليا، هو الذي نعى عملية النقد برمتها، أو قاد إلى تقزيمها، أو تقليل الاعتماد عليها، وكشف مساوئها، مما أدى إلى الاستغناء التدريجي عنها، بل أعتقد أن هنالك حقيقة لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال تجاهلها، ألا وهي أن بدء تدهور دور النقد وانحساره في نهاية السبعينات من القرن الماضي، نتيجة للتطور التقني والعلمي، الذي صور العالم على أنّه لم يعد بحاجة إلى النقاد، لأنّ العالم انتقل من الحداثة إلى عصر ما بعد الحداثة، وهو على أيّ حال تطوّر طبيعي في عمر البشرية.
منذ بداية الخمسينيات كان النقاد في حقليّ (الأدب والاجتماع) يجتهدون في انتقاء الأعمال الراقية لتحليلها والتصدي لها نقديّا، لحاجة الجمهور الماسة لها كجزء من الحداثة. وهنا تألق النقاد وبدأت عملية النقد تأخذ مسارها التصاعدي. لكن بمجرد انتهاء فترة الحداثة انتهت مهمة أولئك النقاد. وقاد هذا إلى انزواء دور الناقد والعملية النقدية برمتها، رغم أن تلك الفترة كانت الفترة الذهبية لعصر النقد الحديث، بوجود نقاد كبار. وهكذا بدأت العملية النقدية في التغير التدريجي مع بزوغ عصر ما بعد الحداثة.
يقول ميخائيل نعيمة في كتابه الغربال (إن مهمة الناقد هي غربلة النصوص لا غربلة أصحابها). وما يريد نعيمة قوله إن النقد ما هو إلا ممارسة ذهنية مسؤولة عن تحليل الأعمال الأدبية، وإصدار حكم بصددها، سواء من خلال استقراء النظريات الأدبية، أو من خلال الاستعمال المنظم للتقنيات غير الأدبية ولمختلف ضروب المعرفة. لكن بتطور الزمن تغيّرت كثير من المفاهيم، خاصة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. هذا التغير قاد إلى تغيير شروط العملية النقدية كلها، إذ تغيرت من حيث الإنتاج والمفاهيم. وليس من الطبيعي أن يظل الناقد في منأى عن هذا التطور. لذلك تغيرت آلياته وأدواته المنهجية، وسرعان ما أثّر هذا في دور الناقد في الحياة الاجتماعية. وهنا تحوّل الناقد إلى عبئ على النص وعلى القارئ، الذي استعان بذائقته أكثر من تحليلات النقاد ونظريات النقد، التي بدأت تتعقد وتتطور، مما يشكل عبئا على نفسية القارئ وذائقته.
من هنا جاء انحسار دور الناقد. فقد تراجع إلى دور ثانوي، ولم يعد بتلك الأهمية، التي كان عليها سابقا، لأنّ ظهوره كان بظهور مفهوم الحداثة، وكان مفهوما معقدا بحاجة إلى من يوضحه للقارئ، فكان دور الناقد هو تبسيطها اجتماعيا وأدبيا. لكن بعد أن وصل العالم إلى ما بعد الحداثة لم يعد للناقد تلك الأهمية، فقد انتهى دوره عمليا. ومن هنا انحسرت الحاجة إلى العملية النقدية، حتى بدأ انزواؤها واضمحلالها شئيا فشيئا. لذلك فعملية موت الناقد تحصيل حاصل. وقد سبقت نعي الناقد البريطاني رونان ماكدونالد، وكل ما فعله ماكدونالد هو فقط إعلان هذا الموت رسميّا.

رولان بارت وموت الناقد

هل كان للناقد الفرنسي رولان بارت أيّ دور في تعجيل هذا النعي، أقصد إعلان موت الناقد في مقاله المشهور «موت المؤلف» الذي كان قد مهّد رسميا إلى «موت الناقد» وإقصاء العملية النقدية بسياقاتها ونظرياتها، التي أخذت في التعقيد شيئا فشيئا. فقد أعلن رسمياّ أنّه (يرى أننا لم نعد بحاجة إلى النقاد الأدبيين أو غيرهم) وذلك عن طريق تعويض الناقد بالقارئ، وتعويض النقد بالنص، أي بمعنى تعويض النظريات الأدبية بالذائقة الخاصة، أي بثقافة القارئ، وهو أوّل تمهيد حقيقي لبزوغ مفهوم النقد الثقافي، إذ أعلن نقاد الغرب (موت النظرية) أي تلك النظريات التي أخذت تتطور وتتداخل وتتعقد، فتمّ توجيه التهمة رسميا إلى النقد، نتيجة لتشدد النقاد وأدلجة النقد بتلك النظريات النقديّة المعقّدة.
المعروف أن رؤيا بارت تقوم على ثلاثة مفاهيم:
1 – مفهوم النص
2- مفهوم الكتابة
3- مفهوم القارئ
ولا يمكن أن نصل إلى اللذّة المطلقة للنص إلا عبر هذه الآلية، التي اقترحها بارت، وهو الذي اتجه إلى اللغة، ورأى أنّها عبارة عن أنساق من العلامات، يمكن تشخيصها. وحسب هذا المفهوم الجديد، الذي يراهن على اللغة وطاقتها ودلالاتها، يمكن إقصاء المؤلف، والاحتكام إلى النص، أو يمكن اعتباره كيانا مستقلا، لم تعد تربطه علاقة إبداعية أو إنتاجية بمن كتبه. وهذا ما يعني ضمنا إقصاء الناقد والمؤلف مرة واحدة، والاحتكام إلى القارئ، وصاغ ذلك بعبارته المشهورة (إحلال القارئ بدل المؤلف) لماذا؟ لأنّ الناقد كان الواسطة بين المؤلف والقارئ. وهكذا فتح بارت الأبواب على مصاريعها أمام مفهوم النقد الثقافي، الذي يعتمد على الذائقة الشخصية للقارئ أو المشاهد، بعيدا عن أيدولوجيات أو نظريات النقد، التي تعقدّت كثيرا. فقد أعطى بارت القارئ حق التأويل، بمعنى أن كل قارئ يخلق المعنى، الذي يفهمه من النص، حسب تأويله وثقافته، ويفسر ما قرأه كما يحب. واستنادا إلى هذه الآلية تمّ تحرير النص من سطوة المؤلف، وإعادته إلى القارئ. إذ يرى بارت أن القراءة هي عملية استرسال مفتوح، لها طابع فردي، لا تحتاج إلى معرفة ما يدور في خلد المؤلف، لكي تكتسب مشروعيتها أو تقييمها.
لقد سلّم رونان ماكدونالد في كتابه «موت المؤلف» بأنّ الدور، الذي كان يمارسه الناقد قد تراجع بشكل كبير لصالح القارئ، الذي أصبح يدوّن ويكتب وينتقد ويثني ويدلي برأيه، عبر الكثير من الصحف والمجلات والإذاعات ومحطات التلفزة. وهذا تراجع حقيقي لدور الناقد، الذي أصبح دورا ثانويا. ثم عاد ليقترح مهمة جديدة للناقد بدلا عن موته نهائيا، شرط أن لا تكون له في هذه المهمة الجديدة سلطة مطلقة، فيقول (لربما لا يكون الناقد قد مات، بل جرت ببساطة تنحيته جانبا، أو أنّه يأخذ سنة من النوم. وتتمثل الخطوة الأولى الضرورية لإيقاظه في استعادة فكرة الجدارة الفنية، وزرعها في قلب الناقد الأكاديمي، أن الحكم هو المعنى الأول من معاني الكلمة اليونانية كريتوس، وإذا كان الناقد راغبا في أن يكون مقدرا وذا قيمة، ومهتما كذلك بالوصول إلى جمهرة القراء، فعليه أن يكون تقويميا).

صفات الناقد حسب دونالد

1- شخص غير فاعل، بسبب عدم قدرته على الخلق الفني.
2- قوي وقادر، بصورة غير لائقة، على تدمير سمعة المبدعين بضربة واحدة من قلمه المسموم.
3- نخبوي ينتمي إلى مرحلة سلطوية غير ديمقراطية.
إذن غياب شخص كهذا عن المشهد الإبداعي غير مأسوف عليه، خصوصا أن دور الناقد الآن تحوّل إلى دور ترويجي دعائي للأعمال الإبداعية، أدبية كانت أم فنية. بل انزلق إلى المجاملات والعلاقات الخاصة، وبالتالي هو من وضع نهايته بهذه الطريقة، وصار القليلون فقط يعيرون اهتماما لكتابات النقاد في الوقت الراهن.

الخلاصة

بعد انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، وسهولة الوصول إلى النصوص، فقد تهمش تقريبا دور الناقد، وهذه واحدة من ثمار عصر ما بعد الحداثة، إذ تشظّت السلطة إلى سلطات، ولم تعد محصورة في رؤيا الناقد المسلح بالنظريات النقدية الجاهزة، فكان الوصول إلى مفهوم أو فلسفة النقد الثقافي تحصيل حاصل، نتيجة للتطور التكنلوجي الهائل، وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي. فقد انحصرت قراءات النقاد في دائرة ضيقة، قد لا تتعداهم، أي إنّهم أصبحوا يقرؤون لبعضهم أو هم والمؤلفون فقط، أي إن القارئ أصبح خارج هذه الدائرة تماما، فقد انتشرت في الفترات الأخيرة مجاميع عبر شبكات التواصل الاجتماعي تضم النقاد والمؤلفين عبر تطبيق برنامج زوم، يستعرضون بها كتبا تخصّ النقد، أو مجاميع شعرية أو روايات. والملاحظ في هذه المجموعات اختصارها على الجمهور النوعي من أساتذة جامعات ونقاد وأدباء. وهذا يؤكد على ما ذهب إليه أو بشر به كل من بارت في «موت المؤلف» ومكدونالد في «موت الناقد» مع الغياب التام للقارئ العادي. وهذا ما أطلق أخيرا نعي أو موت القارئ.
لكن الحقيقية أن القارئ لم يمت، بل لم يعد معنيا بآراء النقاد، ولا حتى العملية النقدية برمتها، لأنّه دخل في مفهوم النقد الثقافي الواسع، وأصبح يشكل رأيه الخاص وتحليله ورؤياه الخاصة به، النابعة من ثقافته وتحليله هو، لا ما تفرضه نظريات النقد المعقدة. وهكذا نصل ليس فقط إلى موت الناقد، بل إلى موت العملية النقدية برمتها، والتي بدأت تختصر على النقاد والأدباء فقط، بعيدا عن الجمهور العريض، الذي كان يمنحها حضورها وشرعيتها وانتشارها. وهذا ما يؤدي إلى نعي النقد وليس فقط نعي الناقد، الذي اختصر دوره في المهرجانات والمجموعات (الكروبات) الخاصة، والكتابات في الصحف والمجلات، التي لم تعد تستقطب القارئ العادي لقراءتها أو متابعتها.

شاعر وناقد عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية