لقد ظل القضاء العراقي طيلة تاريخه الحديث، ومع بداية تأسيس الدولة العراقية في العام 1921، تابعا للسلطة التنفيذية/ وزارة العدل، لكنه مع هذا، لم يتورط في العهد الملكي والجمهوري الأول بين عامي 1958 و 1963، والثاني بين عامي 1963 و 1968، في القضايا ذات الطبيعة السياسية، لهذا كانت تلجأ تلك السلطات إلى استخدام المحاكم العسكرية لتنفيذ ما لا يمكن تحقيقه عبر القضاء الطبيعي.
هكذا، كانت المحاكمات التي طالت قيادات الحزب الشيوعي العراقي وإعدامهم في العام 1949، ومحاكمات محكمة الثورة (التي عرفت إعلاميا بمحكمة الشعب) بعد ثورة/ انقلاب 1958، ومحكمة عبد الغني الراوي التي أعدمت عبد الكريم قاسم في العام 1963، ثم محاكمات محكمة الثورة التي أعيد تشكيلها في العام 1964 بعد ثورة/ انقلاب العام 1963، ثم محاكمات محكمة الثورة التي تشكلت عام 1969، جميعها محاكم عسكرية بحتة.
والمفارقة هنا أنه بعد إرساء الديمقراطية الأمريكية «المعلبة» في العراق بعد عام 2003، تشكلت محكمة استثنائية ذات طابع سياسي تحت مسمى «المحكمة الجنائية الخاصة» ولم يُعتمد على القضاء الاعتيادي في تلك المحاكمات!
بعد عام 2003، أدخل الأمريكيون مبدأ الفصل بين السلطات، وأعادوا تشكيل مجلس القضاء الأعلى ليكون مستقلا عن السلطة التنفيذية، لكن التجربة، بعد ذلك، أثبتت أن الاستقلالية ظلت مجرد مفردة عبثية. فلم يسع القضاء نفسه لكي يكون مستقلا، كما أن الطبقة السياسية العراقية بأكمها كانت حريصة على عدم استقلاليته، وتواطأ كلاهما على تحويل القضاء إلى أداة سياسية!
لكن هذا القضاء شهد تحولا جوهريا بداية عام 2017، وذلك بعد تشريع قانون مجلس القضاء الأعلى الذي فصل الأخير عن المحكمة الاتحادية العليا، ونشأ نتيجة لذلك، صراع مكتوم، ثم علني بعد ذلك، بين رئيس المحكمة الاتحادية ورئيس مجلس القضاء الأعلى، عكس أزمة القضاء وأزمة الدولة كذلك.
وكان الملمح الأخطر في هذا السياق هو طبيعة السلطة التي مُنحت للقضاء والتي كانت سلطة مطلقة جعلته محصنا من أي رقابة أو مساءلة؛ فالسذاجة التي حكمت صياغة المواد المتعلقة بالمحكمة الاتحادية في الدستور العراقي، والتي حكمت صياغة قانون مجلس القضاء الأعلى، حولت السلطة القضائية إلى إقطاعية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وأصبحت قرارات المحكمة الاتحادية العليا، باتة وملزمة للسلطات كافة، مهما اشتطت، وتناقضت، ومهما كانت مخالفة لصريح أحكام الدستور والقانون والمنطق، كما أصبح مجلس القضاء الأعلى، ذا سلطة مطلقة لا يمكن مراجعتها مهما خالف قواعد القانون والمنطق والحس السليم!
السذاجة التي حكمت صياغة المواد المتعلقة بالمحكمة الاتحادية في الدستور العراقي، والتي حكمت صياغة قانون مجلس القضاء الأعلى، حولت السلطة القضائية إلى إقطاعية
لكن الأمر لم يقف عند هذه الحدود، لاسيما بعد ظهور مؤشرات واضحة على أن ثمة صراعا يتنامى بين إقطاعية المحكمة الاتحادية العليا، وإقطاعية مجلس القضاء الأعلى، في سياق قيامهما بدور سياسي مباشر، وبدا أن ثمة تسابقا بينهما على من يكون الأكثر قدرة على خدمة الفاعلين السياسيين بعيدا عن اختصاصاته وصلاحياته الدستورية والقانونية، والتنافس على مَن منهما أكثر فاعلية في تكريس الأوهام التي تداعب خيال الفاعلين السياسيين الشيعة، جميعا ودون استثناء، حول قواعد الحكم!
سياق الأدوار المستحدثة هذا هو وحده ما يفسر التصريح الذي أدلى به رئيس مجلس القضاء الأعلى مؤخرا حول الأقاليم، ففي بيان صادر عن مجلس القضاء الأعلى أكد رئيسه على «رفض الأفكار التي تمس وحدة العراق التي يروج لها البعض لغايات سياسية بحتة بعيدة» وعلى «أن الدستور قد تضمن الأحكام الخاصة بتنظيم الأقاليم إلا أن ظروف صياغة الدستور في حينه تغيرت الآن ومعظم من لديه القناعة بهذه الأحكام مقتنع الآن بضرورة تغييرها» وإلى أن «فكرة إنشاء أقاليم أخرى في أي منطقة من العراق مرفوضة لأنها تهدد وحدة العراق وأمنه»!
وبعيدا عن مناقشة ما ورد في هذه التعليقات، مثل القول إن الدعوات للأقاليم هي «دعوات سياسية» وهو أمر طبيعي ومنطقي وهو هنا ليس مثلبة! أو القول باحتكار الحديث باسم الشعب ومصادرة رأيه على المطلوب! والاعتراض على نصوص دستورية حاكمة! وبعيدا أيضا عن معضلة أن يفتي قاض بعلمه الشخصي في قضايا خارج اختصاصه وصلاحياته! فإن الغرض الجوهري من هذا التصريح هو تنصيب مجلس القضاء الأعلى بوصفه وصيا على النظام السياسي والدولة والمجتمع، حتى لو كان في ذلك الإطاحة بالدستور نفسه!
وصراع الأدوار هذا هو وحده ما يفسر ما قاله رئيس المحكمة الاتحادية العليا بأن «مهمة المحكمة العليا الآن ليس فقط تطبيق الدستور حرفيا، بل تحقيق المصلحة العليا للشعب والوطن والحفاظ على وحدة العراق»! ومفردة «الآن» هنا، تفضح طبيعة الدور المستحدث للمحكمة بعيدا عن النص الدستوري الحاكم، وما ورد في هذا التصريح يثبت، أيضا، أن المحكمة بدأت تشتط عن اختصاصاتها وصلاحياتها، وعمدت إلى الانحراف عن تفسير النص الدستوري إلى القيم بدور المشرع، لتقوض مبدأ جوهريا في الفقه الدستوري وهو ان قرارات المحاكم الدستورية هي كاشفة وليست منشئة. وهي لا تمارس هنا دورا سياسيا مباشرا وحسب، بل دور الوصاية على النظام السياسي والدولة والمجتمع ككل!
في إيران، ذكر الدستور الإيراني أربعة مستويات للسلطة الدينية؛ بينها ما يعرف بـ «مجمع تشخيص مصلحة النظام» ومن الواضح أن المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الأعلى في العراق، يسعيان بمنهجية واضحة وبتواطؤ جماعي، إلى أن يقوما مقام هذا المجمع «الآن» فالفاعل السياسي الشيعي يتوهم أن علاقات القوة التي حكمت لحظة كتابة الدستور في ظل رعاية و«ضبط» أمريكي، لم تعد قائمة بعد تدجين الفاعل السياسي السني، والمحاولات المنهجية لتقويض سلطة الفاعل السياسي الكردي. من أجل ذلك يفكر الفاعل السياسي الشيعي اليوم في إعادة صياغة الدستور وتأويله قسريا وفقا لعلاقات القوة المستحدثة التي تسعى إلى جعل مبدأ «الحاكمية الشيعية» التي تعني احتكار الفاعل السياسي الشيعي للقرار السياسي في العراق، حقيقة نهائية لا يمكن حتى مجرد الاعتراض عليها، وتستخدم المحكمة الاتحادية بشكل جوهري لتحقيق ذلك!
كاتب عراقي