أسفر طوفان الأقصى عن إدراك كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة بشكل خاص، استحالة استمرار الأوضاع على ما هي عليه في فلسطين المحتلة.. دولة احتلال تمارس أبشع أنواع الإجرام، وشعب يخضع تحت الاحتلال يعاني أسوأ ما يعانيه البشر، أدرك الغرب الاستعماري عموماً أنه أمام شعب عصي على التطويع، قاوم على مدى 76 عاماً، ولديه الإرادة للاستمرار في المقاومة إلى ما لا نهاية، قد تكون خسارة الكيان الصهيوني بشرية، إلا أن الكلفة المادية يسددها المواطن الأمريكي والغربي في نهاية الأمر من ضرائبه وخزائنه، التي أصبحت تئن، خصوصاً في هذه المرحلة، التي تتحمل فيها أيضاً كلفة حرب أخرى واحدة على الأقل، في أوكرانيا.
ورغم عدالة القضية الفلسطينية على كل المستويات، حيث قرارات مجلس الأمن الواضحة في هذا الشأن، خصوصاً رقمي 242 و338 التي تمنح الفلسطينيين حق إقامة دولتهم على حدود الرابع من يونيو 1967، باعتراف كل دول العالم تقريباً بهذا الحق، إلا أن مشاريع سلام تطرح نفسها على موائد المفاوضات الآن، بأطروحات أمريكية بريطانية بالطبع، ومباركة عربية للأسف من دول التطبيع بشكل خاص، تُجرد القرارات الدولية من مضمونها، وتلقي الفتات لشعب ناضل ولا يزال يناضل، إلى الحد الذي شهد به الأعداء قبل الأصدقاء، وفقد في سبيل ذلك مئات الآلاف من الأرواح.
تأتي مشاريع السلام، (سيئة النية والسمعة والقيمة) المطروحة حالياً، متجاهلةً القرارات الدولية، رغم أن هذه القرارات تمنح الفلسطينيين دولتهم على نسبة 22% فقط من مساحة فلسطين التاريخية، بالضفة الغربية وقطاع غزة وشرق القدس، إلا أنها في حقيقة الأمر لا تقر بوجود أي مستوطنات هنا أو هناك، وهو ما تتجاهله المشاريع المطروحة الآن، التي تحاول بعض العواصم العربية فرضها على الطرف الفلسطيني، وتحديداً فصائل المقاومة، ناهيك عن وضع مدينة القدس الشرقية الذي أقرته أيضاً القرارات الدولية في السابق لصالح الشعب الفلسطيني، والتي تحاول المشاريع المطروحة الالتفاف عليه. ثم تأتي بعد ذلك قضية فلسطيني الشتات، أو اللاجئين الفلسطينيين حول العالم، كأحد ثوابت النضال الفلسطيني، التي لا تجد مجالاً للنقاش في المشاريع المطروحة، إلا ما ندر، حول عودة عدة آلاف فقط، وتعويضات مالية هزيلة، تسددها دول نفطية، مقابل التنازل عن الوطن، وغير ذلك كثير من بينها خروج قادة حركة المقاومة الإسلامية «حماس» من قطاع غزة نهائيا، وتغيير المناهج الدراسية الفلسطينية تحت إشراف دول التطبيع، بهدف تزوير التاريخ، وخضوع وسائل الإعلام الفلسطينية لإشراف دول الاستعمار، بهدف إعادة صياغة العقل الفلسطيني! كما أن هناك على مائدة التفاوض، قضيةً تلقى إجماعاً غربياً، وللأسف عربياً أيضاً، وبالطبع أمريكياً إسرائيلياً، والمرتبطة بالشرط الأكثر إجحافاً، وهو أن تكون الدولة الفلسطينية المنزوعة الأوصال، منزوعة السلاح في الوقت نفسه، وهو أمر مثير للغثيان، خاصة عندما ندرك أن الخصم، أو دولة الجوار، دولة نووية، وهو أمر يتناقض مع المنطق، إلا أننا سنشفق على الطرف الفلسطيني المفاوض، خاصة إذا علمنا أن المفاوضات لم تشهد طرحاً واحداً من أي وسيط عاقل، يقترح نزع سلاح الدولتين على سبيل المثال، أو حتى يجدها فرصة للحديث عن نزع السلاح النووي من المنطقة. أيضاً، مصادر مطلعة على سير المفاوضات أكدت، أن مشروع السلام المقترح حالياً، لا يمنح أولوية لقضية الأسرى الفلسطينيين، الذين يقارب عددهم 15 ألف أسير الآن، بعد اعتقال نحو 8000 مواطن من الضفة الغربية وحدها، منذ السابع من أكتوبر الماضي، حتى بلغ الأمر اعتقال بعض ممن تم الإفراج عنهم في صفقة التبادل الأخيرة، ذلك أن مفاوضات تبادل الأسرى، تدور حول الإفراج عما يصل إلى 1500 أسير، من بينهم نحو 400 من المحكوم عليهم بأحكام كبيرة، مقابل أسرى الكيان لدى المقاومة في غزة، الذين يزيد عددهم قليلاً على مئة شخص، (ثم بعد ذلك يعود القصف على القطاع)، طبقاً لما هو مطروح من (هدنة مؤقتة)، وهو الطرح الذي يلقى قبولاً عربياً واسعاً، خصوصاً من دول التطبيع، وتقاومه حركة حماس بشدة.
أصبحت القضية الفلسطينية، بعد طوفان الأقصى تحديداً، تمثل قضية رأي عام عالمي، وتشكل تحدياً كبيراً لكل الأحرار في العالم، وتجد المساندة الشعبية في كل مكان
أثق في قدرة مفاوضي حركة حماس تحديداً على التصدي لهذه المشروعات، إلا أن الأمر الآن يحتم دخول أطراف أخرى على خط المفاوضات، من خارج دول التطبيع، كالجزائر، أو من جغرافيا المواجهة، كحزب الله اللبناني، بهدف دعم المفاوض الفلسطيني، بوجود دخلاء من الولايات المتحدة وبريطانيا، لا يمكن اعتبارهم أبداً أطرافاً نزيهة، أو وسطاء محايدين، خاصةً أننا سمعنا تصريحات أمريكية مكثفة خلال الأيام الأخيرة، تلقي بالكرة في الملعب الفلسطيني، وتدعو المقاومة، فيما يشبه الأوامر، إلى الموافقة على ما هو مطروح على مائدة المفاوضات، وهو أمر مثير للدهشة، في ظل استمرار الدعم العسكري والسياسي للكيان الصهيوني على مدار الساعة. لنا ان نتخيل أن سلاماً بهذا الشكل المزري، يحمل في المقابل، كما ينص المشروع المطروح، تطبيعاً عربياً من المحيط إلى الخليج مع الكيان الصهيوني، على اعتبار أن العرب أمام مكسب كبير، وهو الرضا السامي من الكيان والغرب في آن واحد، ورغم ذلك فإن الحكومة الحالية في الكيان، بتشكيلها المتطرف الحالي، لم تعد تعير هذا العرض أي أهمية، نظراً لأنها تحققه على أرض الواقع دون تنازلات، ومن جهة أخرى فإن العلاقات مع العرب في حد ذاتها لم تعد ذات أهمية، بدليل أن هناك أقطاراً عربية تترقب انهيار هذه المنظومة، للدخول في غيرها أكثر فاعلية.
لم يعد هناك أدنى شك، في أن العرب قد تخلوا عن القضية الفلسطينية على كل الأصعدة، السياسية والدينية والأخلاقية، وحتى كونها قضية أمن قومي لهم جميعاً، لها ما بعدها من متغيرات على كل الأصعدة أيضاً، وهو الأمر الذي يمنح المفاوض الفلسطيني حرية الحركة والاختيار والتفكير، والقبول أو الرفض، بالشكل الذي يحقق مصالح شعبه، دون الخضوع لأي ضغوط، أو الاستجابة لأي إملاءات، ذلك أن الشعب الفلسطيني سدد عبر تاريخ القضية ثمناً باهظاً من الدماء والأرواح والشتات، بما لم يشهده العالم من قبل في كل قضايا التحرر الوطني. في الوقت نفسه، أصبحت القضية الفلسطينية، بعد طوفان الأقصى تحديداً، تمثل قضية رأي عام عالمي، وتشكل تحدياً كبيراً لكل الأحرار في العالم، تجد المساندة الشعبية في كل مكان، والدعم الرسمي في معظم العواصم، بعد أن كانت في طي النسيان، نتيجة عوامل عديدة، أهمها ذلك الموقف العربي المتخاذل، والذي أصبح معلناً في بعض المحافل، إضافة إلى موقف السلطة الفلسطينية، الذي جانبه الصواب منذ اتفاقية أوسلو عام 1994، التي كبلته بالكف عن النضال المسلح، ليس ذلك فقط، بل الإنابة عن سلطة الاحتلال في مواجهة الشباب المؤمن بالنضال. وقد تقودنا هذه النقطة تحديداً لدعوة السلطة الفلسطينية، الآن بشكل خاص، إلى إعادة التفكير من جديد في كل شيء، بدءاً من اتفاقية أوسلو، وحتى هذا الوضع المريب والمثير للجدل، بعد أن فقدت السلطة صلاحيتها على أرض الواقع في كل أنحاء مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، التي تجتاحها آليات الاحتلال بشكل يومي، مخلفة وراءها أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى، ودمار المنازل والمنشآت، بخلاف الاعتقالات والسرقات، واعتداءات المستوطنين على مدار الساعة، الأمر الذي كان يجب أن يمثل ذريعة أمام السلطة للانسحاب على الأقل من الاتفاقيات الأمنية الموقعة مع كيان الاحتلال. وإذا علمنا أن السلطة الفلسطينية تستحوذ من خلال أجهزتها الأمنية على نحو 80 ألف قطعة سلاح، فإن أدنى إحساس بالوطنية والغيرة، يحتم الانحياز إلى إرادة الشعب بكل طوائفه، في هذه المرحلة تحديداً، بإعلان العصيان الشامل في كل أنحاء الضفة والقدس، والعودة لصفوف المقاومة، وهو الأمر الذي يمكن أن يغير من مجرى القضية تماماً، خصوصاً بعد أن كشف كيان الاحتلال عن نيته في التهجير القسري لكل مواطني الضفة الغربية إلى الأردن، وأن عقبة قطاع غزة برفض التهجير إلى مصر، هي التي تفسد تلك المخططات حتى الآن. وربما كان تجاهل السلطة الفلسطينية، واستبعادها عن المفاوضات الدائرة حالياً، بين أكثر من عاصمة عربية وأوروبية، أكبر دليل على أن دور السلطة قد انتهى تماماً، مع الداخل والخارج في آن واحد، وأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، بسبب هذا اللاموقف، في وقت كان يجب أن تتصدر المشهد، سياسياً ونضالياً، في كامل أنحاء أرض فلسطين التاريخية، وليس في الضفة والقطاع فقط، وهو الأمر الذي يحتم عليها الآن إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بإعلان النفير العام، للحاق بركب الشرف والبطولة قبل فوات الأوان.
في كل الأحوال، سوف نظل نعول على الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، وضمير النخبة العربية السياسية والثقافية في أنحاء العالم، في دعم المفاوض والمقاوم الفلسطيني على السواء، بمواجهة ذلك الضغط الرسمي، العربي وغير العربي، والتصدي لكل مشاريع الخيانة والعمالة التي تهدف إلى سحق القضية الفلسطينية، في إطار ما يطلق عليه صفقة القرن، التي ظهرت بوادرها من خلال إغداق أموال الصناديق والبنوك الدولية على بعض العواصم، واستثمارات العواصم النفطية في البعض الآخر، بتعليمات خارجية في كل الأحوال، بالتزامن مع صمت واسع النطاق، على مجازر قوات الاحتلال بحق أبناء غزة، بل التواطؤ في معظم الأحيان، حتى لا نجد أنفسنا في نهاية الأمر أمام نكبة جديدة، عنوانها (اتفاقية سلام)، هي في حقيقتها (مشاريع استسلام) واضحة.
كاتـب مصـري