نسويّاتٌ لامرأة واحدة
ارتبطت النسوية كحركة وخطاب بقضايا النساء، وفي طليعتها المناداة بالمساواة بين الجنسين، فبادرت إلى نقد هيمنة الرجال، والتراتبية التي تدعمها في الواقع والخطاب. وقد اقترنت النسوية بعصر التنوير وما أعقبه من شعارات وثورات داعمة لنهضة نسائية ووعي نسائي جديد، وامتدّت في فترات متباينة حتى أمست ظاهرة كونية، وكان الفيلسوف الفرنسي شارل فورييه أول من أطلق مصطلح النسوية عام 1830، قبل أن يدخل في الخطاب النقدي والثقافي على نحو ما صنعت الكاتبة البريطانية بام موريس في كتابها الرائد «الأدب والنسوية»، التي رأت أن الداعي إلى النسوية ليس سوى «الاختلال داخل النظام الاجتماعي الذي كرس التراتبية»، وانتقدت فيه مجموع الصور النمطية التي ترسمها كلاسيكيات الأدب الإنكليزي (ميلتون، شكسبير، ديكنز، ووردزورث، شوسر…) عن المرأة، إلى حدّ أن تصير هذه الصور تسويغاً لإقرار عقاب اجتماعي على النساء. بيد أن النسويّة التي كانت تتطور باستمرار، وقد توزعت حسب خلفياتها الأيديولوجية وأطرها المعرفية على تيارات عديدة، فظهرت النسوية الليبرالية والماركسية، والنساء السود، والبيئية، والراديكالية، وما بعد الكولونيالية، وما بعد البنيوية التي فجرت الحديث حول الكتابة النسائية في ظل تنامي الاهتمام بالمناهج النقدية (البنيوي، التفكيكية، التحليل النفسي..). وحسب الجغرافية، ظهرت النسوية الفرنسية، البريطانية، إلخ. بينها قواسم مشتركة، إلا أنها تختلف عن بعضها بعضا حسب السياق والواقع والإكراهات.
بالنسبة إلى النسوية العربية، ترى رائدة البحث النسائي في المغرب رشيدة بنمسعود، أنّها ترتبط تاريخيّاً بـ«مرحلة تذكير القضية النسائية»، إذ كان للرجل محور أساسي في بداية الاهتمام بها، من خلال اللقاء مع الغرب أو عبر الرحلات إليه لتلقي المعرفة والعلم، حيث اكتشف مدى تخلف المرأة العربية، فدعا إلى الاستفادة من تجارب الآخرين واللحاق بعصر التمدن من مدخل العناية بقضايا النساء (رفاعة الطهطاوي، قاسم أمين، محمد عبده، الطاهر الحداد، علال الفاسي، محمد الحجوي..). ومع الوقت أخذت قضية النساء مسارات متعددة تتكامل في ما بينها، وتدخلت في شأن الارتقاء بها على مستوى الواقع والخطاب سياقاتٌ مهمّةٌ للغاية: سياق نسائي (ازدياد الوعي)، وسياق سياسي (التحول الديمقراطي) وسياق تشريعي (تحديث مدونة الأسرة). موازاة مع ذلك، وفي سياق تأويلي واجتهادي، ستظهر إرهاصات النسوية الإسلامية في إيران مع صدور مجلة «زنان» (تعني امرأة بالفارسية) عام 1992، ثُمّ أخذت تزدهر مع وجود جيل من الأكاديميات العربيات أو المسلمات منذ بدايات تسعينيات القرن العشرين، واللائي تشبعن بمناخ علمي وبحثي جيّد في جامعات المهاجر (شمال أمريكا وأوروبا)، مثل الأمريكية أمينة ودود والمصرية ليلى أحمد. وأرجعت رشيدة بنمسعود مثل هذا الاهتمام، في المحاضرة التي ألقتها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية (تطوان/ المغرب) تحت عنوان: «النسوية وسؤال التأويل»، إلى أن المرأة اقتحمت مجال البحث في الفقه والتراث، وهو ما أثمر على يديها دراسات جادة ومفيدة تؤطرها رؤية نسوية مستندة إلى منهجية علمية ومراجعة نقدية لما قيل في تفسير بعض الأحاديث النبوية، ولاسيما «الكارهة»، حسب تعبير فاطمة المرنيسي. وركزت هؤلاء الباحثات (أميمة أبو بكر، مريم يماني، ألفت يوسف، غيثة فرج، أسماء المرابط) على قضايا أساسية بحثاً عن طريق ثالث عماده العدل والمساواة، والمؤسس على الاجتهاد المبدع. وقد فتح باب الاجتهاد مثل هذا الطريق من أجل تقديم رؤية نسوية إسلامية متطورة، بدأت في أيام عصر النهضة مع اللبنانية نظيرة زين الدين (1908-1977) صاحبة «السفور والحجاب»، ولم يتوقف أوج عطائها المعرفي والتـأويلي عند المغربية فاطمة المرنيسي (1940-2015) صاحبة «الحريم السياسي: النبي والنساء». وهي تنخرط اليوم في عمليتين متكاملتين: تأويل نصوص القرآن والسنة من منظور غير ذكوري مُعادٍ للنساء، ونقد التراث بما فيه من تفسيرات، أو انحيازات تحكمها مهيمنات ثقافية لها جذورها التاريخية والسياسية والاجتماعية الممتدّة منذ قرون طويلة.
قضية فنّ ومجتمع
في الأدب العربي الحديث، ارتبط ظهور كتابة المرأة بالوعي النسائي التحرري. بقدر ما كان هذا الوعي يتطور في لحظات حاسمة من التاريخ الثقافي والسياسي، ويصطدم مع نظام الهيمنة الذكورية ومؤسساته من حين إلى آخر، كان الشرط الفني والجمالي للكتابة النسائية يتطوّرُ ترتيباً عليه. لهذا، فقد ازدهرت هذه الكتابة في بلدان عربية مثل، مصر وبلاد الشام، وتأخر ظهورها في بلاد أخرى. ومنذ البدايات التأسيسية الأولى، كانت مثل هذه الكتابة – شعراً ونثراً – تحفزها الرغبة في اكتشاف الذات والعالم ومقاومة جدران الصمت، فبادرت نصوصها الحديثة الأولى والمؤسسة لرائدات بازغات ونبيهات، مثل: عائشة التيمورية، مي زيادة، نبوية مصطفى، لبيبة هاشم، ملك حفني ناصف، هدى شعراوي، منيرة ثابت، زينب فواز، عفيفة كرم، لميعة عمارة عباس، نازك الملائكة، فدوى طوقان، مليكة العاصمي، خناثة بنونة، رفيقة الطبيعة وغيرهنّ، إلى أن تلقي عن نفسها رداء الخمول والخوف والتقليد والتبعية، وتتصالح تدريجيّاً مع روح العصر الجديد الذي أخذ يناديهنّ، وتتشابك مع موضوعاته وقضاياه التي كانت تصطبغ في كل مرحلة تاريخية بطابع معين يمليه «إبستيمي» العصر واشتراطاته المُلحّة؛ من مقاومة الاستعمار الأوروبي والمساهمة في جلائه، إلى الدفاع عن حقوقها داخل المعترك الاجتماعي الذي كان تديره تقاليد النظام الأبوي وأعرافه الصارمة؛ فلم تقلّ فاتورتها الباهظة مادّياً ورمزيّاً حين خرجت من أجل التحرر الوطني، عن معركتها القاسية حين ناضلت من أجل التحرر التام بشخصيتها ونفسها ومصيرها في سبيل حريتها وكرامتها وأخلاقيّات كتابتها وبلاغتها الخاصة.
منذ تسعينيات القرن العشرين، التي شهدت تراجع المنظومات الكُلّيانية وصعود المجتمع المدني وانفراج المسار الديمقراطي والحقوقي، تفتحت مدوّنة النساء الكاتبات أكثر فأكثر على مشاريع التحرر بأوسع معانيه، وباتت تُجسِّد وعياً أكثر جرأةً وحسماً في علاقاته المتوترة بالفن والمجتمع والتاريخ والأيديولوجيا ولسان البلاغة التقليدية، وتقاطعت فيها هموم التجديد في مقاربة الموضوعات والرؤى بلاغيّاً وجماليّاً، مع الرغبة في تجريب أساليب السرد الذي يستعيد أصواتهنّ ويحرر مُخيِّلاتهنّ وطرائق تمثيلهنّ للذات والعالم والأشياء، ولاسيما حين دخلت نصوص وحكايات وتواريخ من الهامش العربي في صميم هذا الوعي؛ من البلاد المغاربية والسودان واليمن وفلسطين والخليج العربي.
تفكيك الخطاب
كان مثل هذه الوعي الكتابي الذي جسدته المرأة المبدعة ودافعت عنه بقوّة، يحتاج إلى تأسيس جندري يحايث النصوص ويصغي لقضاياها وأسئلتها وجمالياتها الخاصة، بقدر ما يهدف إلى تأسيس بلاغتها القائمة على الحداثة والاختلاف والمغايرة لفهمها وإعادة بنائها معرفيّاً، بعد تحريرها من «حيف» الأنتلجنسيا العربية في ثوبيها الإصلاحي والاشتراكي. وقد بذلت الباحثة رشيدة بنمسعود جهداً بالغ الأهمية من أجل هذا التأسيس، حين جعلت من القضية النسائية معركتها الفكرية في ميدان الإبداع النسائي، بعيداً عن أي رؤية ضيقة أو نسوانية منغلقة ذات مسبقات مُتصلّبة، منذ باكورة أعمالها النقدية «المرأة والكتابة، سؤال الخصوصية وبلاغة الاختلاف» (1994)؛ وهو الذي تميز بهمّه التأصيلي والتصنيفي، حيث أثبتت جذور الكتابة النسائية في تراثنا الأدبي، ودافعت عن خصوصية هذه الكتابة في وقتنا الراهن، وعن دور المرأة في الدفاع عن نفسها وجراحاتها ومتخيلها عبر أساليب قولها الخاص والمختلف، وإن كانت لا تضع فصلاً تعسُّفياً بين الرجال والنساء، بل تعتبر الأدب ككل لا يقبل التجزئة في نهاية التحليل.
وفي كتابها «جماليات السرد النسائي» (2006)، الذي كُتبت فصوله في فترات زمنية متباعدة، تعتكف الناقدة على تحليل ما تطرحه الكتابة النسائية بوصفها أداة كفاح وتعبير وكشف وبوح وتوق، من قضايا وإشكالات نظرية ونصية وثقافية تمس في جوهرها هوية المرأة وجسدها ولغتها ووضعها الاعتباري داخل الحياة الاجتماعية والسياسية. وقد أتاح لها المتن الذي يشمل نصوصاً سردية (رواية، قصة قصيرة، سيرة ذاتية..) من المشرق والمغرب، ترسيخ إيمانها بجدوى الكتابة النسائية وخصائصها النوعية، التي تنمّ عن حساسية الأنثى وانحيازها الدقيق إلى إعادة بناء الواقع وتسمية معطياته، بالقدر الذي تعيد فيه تشخيص اللغة وإثراء المتخيل النصي من خلال موضوعات الكتابة التي تتدرج مما هو اجتماعي عارم (التحرر، الثورة، الانتماء الوطني..) إلى ما هو شخصي وحميم وبسيط (الجسد، الحب، الوجود..)، قياساً إلى تنوُّع الألاعيب السردية (الحكي المرآوي، التهجين اللغوي، شعرنة اللغة، التناص، المفارقات الزمنية، الكرونوطوب، إلخ).
لقد أقامت الكاتبة رشيد بنمسعود فهمها للموضوع النسائي ومَفْهمته وتأويل سرديّاته، على مدخلين رئيسيين؛ تفكيك آليات الخطاب السائد ومهيمناته الثقافية حول المرأة من منظور معرفي جديد، وبحث سؤال المرأة والكتابة في علاقته بالجندر، الذي لا يمكن تناوله خارج خطاب الجسد وما يعكسه من رؤية أنثوية للعالم تعيد تأويل اللغة خارج بلاغتها التقليدية وحدودها المرسومة وارتباطاتها الأيديولوجية التي كانت ترتع من «دوغما» التنشئة الاجتماعية. وعلى أساس هذا الفهم المركّب، تُجسّد المرأة في حد ذاتها قضية المجتمع وقضية الفنّ، ولا يمكن تأويل كينونتها الفردية بأبعادها السياسية والفلسفية والوجودية، إلا في نطاق تعبيرها عن ذاتها، ووَفْق خيارات أسلوبها ورؤيتها للعالم.
صحيحٌ، أن الدراسات والأطاريح في موضوع الإبداع النسائي، وفي ما يتصل به من إشكالات سياسية وحقوقية واجتماعية متراصّة، أخذت تتدفق منذ بدايات الألفية الثالثة، وتثير نقاشات وتفضّ تابوهات مسكوت عنها في الوسطين الثقافي والجامعي، ولكن يجب أن لا ننسى أنّها مدينةٌ لما قامت به رشيدة بنمسعود، ضمن أخريات، من حفريّات في طبقات النصوص التي تأبى مع الزمن إلا أن تكون «نسائيّةً» باستمرار، وأن تقوله من تلقاء نفسها، بلا متعالياتٍ أو وصايةٍ من أحد.
كاتب مغربي