منذ فترة طويلة جرت محاولات إقصاء اللغة العربية الفصحى في بعض الأعمال التاريخية والدينية، حيث عملت بعض شركات الإنتاج الخارجية وغيرها من مصادر التمويل المحلية على تشجيع الأفلام التاريخية الناطقة بلغة تمتزج فيها الفصحى بالعامية المصرية، فأول تلك التجارب كان فيلم «المصير» للمخرج يوسف شاهين وأيضاً فيلمه «وداعاً يابونابرت» وقبلهما كان فيلم «وإسلاماه».
لكن أحداً لم يتوقف كثيراً آنذاك عند هذا الملمح باعتبار أن القصص تحتمل ذلك المزج ولم يكن هناك تفسيراً تآمرياً للحالة الإبداعية المُختلفة في الأفلام المذكورة وجرى التقييم النقدي خارج هذه الدائرة. فتوظيف اللهجة العامية تم فهمه على أساس أنه مجرد نمط شكلي ليس أكثر وأن العبرة بالمضمون والمحتوى الذي تم تقديمه، وللأسف كان ذلك إغفالاً معيباً لدور جهات التمويل في فرض اللهجة العامية كوسـيلة تخاطب بدلاً من اللغة العربية.
وبعد سنوات عادت محاولات جس النبض مره أخرى لتحديد مدى قابلية المُشاهد والحركة النقدية المصرية للأعمال الناطقة باللهجة العامية. فمنذ فترة طويلة تم إنتاج المسلسل التاريخي «علي الزيبق» بطولة فاروق الفيشاوي وأبو بكر عزت وهدى سلطان، ثم جاء مسلسل «رسائل الإمام» الذي عُرض في شهر رمضان من العام الماضي وقام ببطولته خالد النبوي نموذجاً لاختبار رد الفعل، فالمسلسل اعتمد على فكرة المزج بين اللغة العربية الفصحى واللهجة العامية مُتجاوزاً الشروط التقليدية للكتابة الدرامية التي تُحتم نُطق الشخصيات داخل العمل الدرامي باللغة العربية الفصحى كنوع من الحفاظ على اللغة وضماناً لهيبة المُصنف التاريخي ذاته بوصفه إبداعاً مُختلفاً شكلاً وموضوعاً.
ولأن الظاهرة لم تجد من يتصدى لها فقد تمادت الجهات المُنتجة في تطبيق القاعدة الدرامية الجديدة بالتوسع النسبي في تجاهل لغة الحوار الفصيح وتعميم مبدأ استخدام اللهجة العامية تحت مزاعم تقريب المسافة بين الحدث التاريخي والمُتلقي العصري لسهولة استيعاب اللهجة العامية والتجاوب معها بشكل أفضل من شأنه تحقيق درجة فاعلية أكبر وهي ذريعة تستهدف فقط تمرير العمل وقبوله بلا اعتراض، في حين أن تكرار المُحاولات الدرامية والإبداعية بهذا الشكل لا ينطوي إلا على قصدية واحدة وهي تغييب اللغة العربية تدريجياً من المحتويات الفنية لتسود اللهجة العامية، ومن ثم يتم تمييع الهوية التي تُمثل اللغة العربية نقطة ارتكازها الأساسية.
وهذا هو مربط الفرس والمُبتغى الأول والأخير من ألاعيب جهات الإنتاج الخارجية التي تطلع بدس السُم في العسل، فهي في ظاهر الأمر تهتم بإنتاج الأعمال التاريخية وفي نفس الوقت تهدم اللغة العربية.
كما أنها تستخدم مُسمى الدراما التاريخية بديلاً عن وصفها بالدينية وهي جزئية أخرى جديرة بالتدقيق والملاحظة، لا سيما أن وصف التاريخي شمل في بعض الأحيان أعمالاً دينية مُباشرة تعرضت لسير الصحابة والقادة الإسلاميين كخالد ابن الوليد وبلال مؤذن الرسول وحمزة ابن عبد المُطلب وعمرو ابن العاص وعمر ابن الخطاب إلى آخر الشخصيات التي تناولتها السينما والدراما العربية وأشارت إلى دورها وأهميتها في سياقات كثيرة.
ولتحديد موطن الخطر وتتبع تنامي الظاهرة السلبية نُشير في هذا المقام إلى بعض النماذج من المُسلسلات الجديدة الجاهزة للعرض في شهر رمضان المُقبل للتأكيد على أن مُخطط إهمال اللغة العربية دخل بالفعل حيز التنفيذ وسوف تكشف الحلقات الخاصة بمسلسلي «الحشاشين» و«جودر ألف ليلة» وليلة عن طبيعة التناول والنفي العمد للغة العربية كي تتراجع القيم اللغوية والتاريخية في أذهان المُتلقين والمُتعاطين لهذا النوع من الصنف الدرامي والإبداعي الخاص.
وبرغم كل ما يذُكر عن المستوى الفني والاحترافي المتميز للأعمال التاريخية المُنتظر عرضها، إلا أن هناك ثمة مخاوف تساور البعض من إحداثها تأثيرات سلبية حقيقية ربما تساعد على تغيير المفاهيم الإيجابية للعمل التاريخي أو الديني فتحوله إلى مجرد نوع درامي عادي يتساوى مع أي عمل آخر مهما كانت أهميته الفنية والفكرية، فعملية التسفيه ذاتها ليست خارج دائرة الظنون، مع الإيمان الكامل بحرية التعبير والإبداع، لكن بشرط الالتزام بمبادئ التناول الموضوعي للأحداث وعدم الافتئات على الحقائق وإلصاق التهم الباطلة بالشخصيات ذات المكانة الرفيعة من باب الإثارة والاختلاف وإعادة قراءة التاريخ في ضوء وجهات النظر.
وبعيداً عن سطوة الجهات الإنتاجية التي تتعسف أحياناً في فرض الشروط بقوة رأس المال مُستغلة الحاجة الماسة للتمويل لتغطية تكاليف الأعمال الدرامية يبقى التأثير الضمني لمُعظم المواد الدرامية المُشابهة والمُختلفة والتي تخلق أنماطاً غريبة على الذوق المصري والعربي تُفقد المُتلقي القُدرة على التمييز بين الجيد والرديء وتقوده إلى القبول بالأمر الواقع في استسلام تام لما يُعرض له من ألوان وصنوف فنية بلا أدنى مقاومة.