يكثر التفاعل حالياً داخل الأوساط الأوروبية وبشدة حول مقولة ايمانويل ماكرون الأخيرة في الشأن الأوكراني، مقولة غامضة و غامضة عمدا: «ديناميكيا، لا يمكن استبعاد أي شيء. «
هكذا تكلم الرئيس الفرنسي قبل أيام خلال مؤتمر دعم لأوكرانيا عقده في الإليزيه ملوحا بتدخل ما لدول حلف شمال الأطلسي في روسيا.
لكن باستثناء إيماءات بولندية وبريطانية مقتضبة وتهليل لأحد مستشاري زيلنسكي، لقي ماكرون استنكارا من زملائه قادة الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وكان استنكاراً لافتا قلما وجد له مثيل.
فماذا نفعل مع روسيا؟
هذا هو السؤال المطروح وهو سؤال ليس بجديد. يطرح في كل وقت وفي كل وقت تتضارب السيناريوهات وتتضارب على نطاق واسع. انطلاقا من موقف الرئيس الفرنسي الذي كان يتحدث ذات يوم عن «ضرورة عدم إذلال روسيا» وكان حينها الصوت الأوروبي الوحيد الذي يغرد خارج السرب أو بالكاد، هبت الرياح في اتجاه ثم في اتجاه معاكس ثم لم تتوقف السفن – حسب البيت الشهير – عن السير على ما لا تشتهي….
الآن، يتحدث ماكرون عن «ديناميكية لا تقصي شيئا « بل أكثر… يتحدث عن «موعد مع التاريخ لا نفلته..».؟ طيب. فلماذا نحن إذن، دول منظمة حلف شمال الأطلسي، لم ننبس ببنت شفة عندما ضمت روسيا جزيرة القرم عام 2014؟ لماذا نحن، دول حلف شمال الأطلسي، لم نعر أدنى اهتمام لتفاصيل اتفاق منسك إلى درجة أن أعلام «لوهانسك» و «دونيتسك» اختفت تماما عن المعادلات التفاوضية.
بل هل وجدت معادلات تفاوضية حتما؟
مدرسة المحللين السياسيين الفرنسيين منقسمة إلى معسكرين. معسكر يدعي أن بيد «المجتمع الدولي « «إيقاف روسيا عند حدها» ومعسكر آخر يسلم ليس ضرورة بالأمر الواقع، لكن بالتأكيد باستحالة مقاربة الأمر الواقع بإبعاد روسيا عن العملية.
حتى أشد الداعمين لإرسال العتاد العسكري إلى أوكرانيا يستبعدون نشر قوات عسكرية تابعة لحلف شمال الأطلسي
حتى أشد الداعمين لإرسال العتاد العسكري إلى أوكرانيا يستبعدون نشر قوات عسكرية تابعة لحلف شمال الأطلسي. فثمة أكثر من عرقلة تقف في وجه ذلك، أولا- عدم عضوية أوكرانيا في المنظمة، ما يجعل نشر قوات على الحدود الروسية – الأوكرانية أمرا منافيا لبنود المنظمة أصلا والرئيس الفرنسي يعلم ذلك. فكلامه لا يمكن أن يتخطى حدود «الردع» كما يرى عدد من المحللين.
وهنا أيضا تطرح عدة تساؤلات: ما الذي أخر دراسة ترشح أوكرانيا لعضوية المنظمة وهو ترشح يجري منذ العام 2014؟ ثم ما الذي جعل أمريكا، الدولة الأكثر قدرة على تنفيذ وعود «المساعدات» وفي مقدمتها تسليم طائرات ف16، تتلكأ عند هذا الحد؟ ثم ما الذي جعل أكثرية بلدان الاتحاد الأوروبي، إذا استثنينا منها جزءا يسيرا من المعسكر الشرقي الذي كان يدور داخل الفلك السوفييتي قديما، تتوقف تماما عن وضع الصراع الروسي الأوكراني تحت مجهر «المعتدي والمعتدى عليه» بل يكاد يكون الرئيس الفرنسي الوحيد الذي يتحدث بهذه اللغة؟
قد يجيب البعض: البراغماتية! وهذا جزء من الجواب فعلا. لكن تخبط المجموعة الأوروبية، فضلا عن توقف الأمريكي عند حد الهجومات الكلامية لا أكثر، يعيداننا إلى أجواء الحرب الباردة، مع زيادة ملحوظة وهي أن رياحا جديدة، رياح الحرب الباردة هذه المرة، تهب في عالم دخل التعددية القطبية منذ زمان.
فصارت أصوات المجتمع الدولي أصواتا خافتة مقابل أصوات أكثرية صامتة تقودها، كما هو معلوم، لكن أيضا كما هو منسي من قبل الكثيرين، الصين ومعها الهند.
لن يكون هناك تدخل لقوى منظمة حلف شمال الأطلسي على الأراضي الأوكرانية وما بالك بالروسية. ولا أعتقد أن الرئيس الفرنسي سيخاطر بانفراده إرسال قوات فرنسية.
«أوكرانيا، أزماتها وأزمات غيرها» هذا عنواننا في مقال اليوم. أجل، أوكرانيا في أزمة، أزمة تفاقمت بمفعول الهجوم الروسي لكنها أيضا أزمة تسبق الهجوم، أوكرانيا ديمقراطية ناشئة أصلا تصارع العقبات، منها الفساد. ولا دعم يمكن لأوروبا أن تقدمه إلا رمزيا. أما بالنسبة لفرنسا، التي أعلنت مساء كتابة هذه السطور عن سعيها لتطوير عتاد عسكري انطلاقا من الأراضي الأوكرانية ذاتها، فتعلم جيدا أن الأمر لا يزيد إلا رمزية على رمزية خاصة بعد التذكير أن بلدنا يحتل المرتبة الرابعة عشرة في قائمة الدول المانحة- المتبرعة في الشأن الأوكراني.
وما تأخير دراسة تسوية دبلوماسية للأزمة سوى هروب إلى الأمام. أما روسيا، فكل ما يهمها أن الانتخابات الأمريكية على الأبواب ورهانها على فوز حليفها أمر مفروغ منه.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي