أن ترى غير أن تسمع. مقولة يُراد بها التحقق من السمع، فكثيرا مما تسمعه لا يكون صحيحا. القراءة يمكن أن تنتمي إلى عالم السمع.. تفتح عالم الجمال مهما اختلفت معها. لكنك يمكن أن تلتقي بمن تقرأ له، فتجده على غير ما تقرأ، فهل ينغلق الباب؟ لم أقابل في قراءاتي كثيرا ممن قرأت لهم لوفاة بعضهم، مثل العقاد أو المازني أو أحمد شوقي وغيرهم، والسؤال طبيعي وهو كيف لشاب لم ينشر شيئا بعد، ويعيش في الإسكندرية البعيدة عن مركزية القاهرة، أن يلتقي بأسماء الأحياء وقتها مثل طه حسين، أو لويس عوض، أو محمود أمين العالم، أو عبد العظيم أنيس، أو نجيب محفوظ، أو يوسف السباعي وغيرهم.
ظل الأمر في دائرة القراءة، فلم أرَ كيف يلتقون معا، وكيف يتعاملون مع بعضهم ولم يشغلني ذلك. حضرت ندوات لبعضهم في قصر ثقافة الإبداع، قصر ثقافة الحرية سابقا – أكاد أضحك وأنا أتذكر أنه يقع في شارع جمال عبد الناصر، الحرية سابقا- كما تقول اللافتة.
في تلك الندوات كنت مجرد سائل لبعض الأسئلة، أو مجرد مستمع سعيد لما يقولون. في الوقت نفسه كنت أقرأ لكتاب الستينيات، شعراء وكتاب قصة قصيرة ونقادا، وكنت معجبا بما يكتبون. حين غادرت الإسكندرية لأول مرة في بداية السبعينيات لأتقاضي أجر نشر لإحدى قصصي القصيرة، ذهبت في المساء إلى أتيلييه القاهرة الذي كنت أعرف أنه ملتقى الفنانين والأدباء، فوجدت أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله. شعرت بأني وجد كنزا. جلست معهم فرحا لكن صامتا، لأسمع ما أشتاق إليه من أحاديث في الأدب والفن. كانا منشغلين في الكلام عن بعض الكتّاب، وفجأة احتد الكلام بينهما وتشاجرا، وكادا أن يعتديا على بعضهما، وانتهت الجلسة. انصرفت مندهشا فما رأيته يتناقض مع ما قرأته لكل منهما من رقة وجمال. تكرر ذلك أكثر من مرة في زياراتي للقاهرة حين عرفت مقهى ريش، وقابلت أيضا نجيب سرور، فصرت حريصا على أن أنصرف بعد وقت لا بأس به، أقضيه معه ومع الجالسين، لأني أعرف أن مشاجرة ستحدث في النهاية، وبالفعل في اليوم التالي أعرف أن المشاجرة وقعت.
استقر في يقيني أن ما أقرأه للكتاب، لا يعني دائما أنهم برقته، فهناك فصام كثيرا ما يتحقق، خاصة أنهم في جلساتهم لا يكتبون، لكن يعيشون ما حولهم مثل كل الناس، ولأنهم أكثر حساسية ينفجر غضبهم، وعادي جدا أن تكون الثقة بالنفس سببا في أن يشعر أي منهم، بأنه من يمتلك الصواب فقط. هكذا عشت لا أوحِّد أبدا بين السلوك والكتابة، فأرحت نفسي، وصرت أنسى ما يقولون عن بعضهم، وأعيش مع ما يكتبون. أدركت مبكرا أنه فضلا عما حولهم مما يثير الغضب، فالغيرة كبيرة بين بعض الكتاب، يعجزون أحيانا، أو كثيرا في جلساتهم، أن يكتموها، وتتحول إلى غضب يتفاوت بين كاتب وآخر. أدركت أني يوما سأتعرض لذلك أيضا، وقررت أن ألقي بما أراه وراء ظهري، فالكتابة هي النجاة. حدث ذلك من بعض ممن أحببتهم، بالذات من بعض كتّاب الستينيات، لكن أنقذني يقيني بأن ما يبقى هو الإبداع والفكر. قابلت من غير كتاب الستينيات كل، أو أكثر، من حلمت بلقائهم من الأجيال السابقة، لكن كنت كعادتي مع المشاهير الأكبر سنا وشهرة، استمع أكثر مما أتكلم، لذلك صارت بيننا محبة كبيرة، بالذات مع من قابلتهم أكثر من مرة، مثل يوسف إدريس ونجيب محفوظ ورجاء النقاش وعلي الراعي وشكري محمد عياد وعبد المنعم تليمة وصلاح فضل وفتحي غانم وصبري موسى وغيرهم الكثير، الذين كانت المحبة بيني وبينهم للسماء. ولن أقول محبتهم لي أيضا حتى لا يندهش أحد، ولا أقول يشعر بالغيرة مني، فقد رحلوا وهم في أرض السلام الآن.
في هذا الزمن الذي نعيشه قلت المقاهي فلم يعد مقهى ريش حافلا بالكتاب، وصار الجالسون في مقهى البستان مشغولين أكثر بلعب الطاولة، مثلي حين أذهب إلى هناك، وصار الحديث عن الأدب والفكر أو الآخرين قليلا، ولم أعد أرى هذه المشاجرات، لكن اتسع الأمر بعد ظهور السوشيال ميديا، وصارت الرؤية تحاصرك. صرت أقرأ عن اتهامات لا أتوقف عندها من البعض للبعض، لأني أعرف أنها ستمضي ويمحوها الزمن. عشت بعدما رأيت لا أتوقف عند الخلافات الشخصية، أو ما أظنه كذلك، وما أكثر ما واجهت، والسبب إيماني بأنها فانية، فهل أفعل ذلك الآن وقد مضى العمر يا ولدي.
لكن أوقفتني عبارات من نوع أن من يتقرب منك فيعطيك كتابه مثلا، يتجاهلك وينساك بعد أن تكتب عنه، ويبدو كأنه لم يعرفك من قبل. يحدث ذلك أحيانا حقا، لكن غالبا من قليلين جدا، ولا أشجع البوح بذلك على السوشيال الميديا الخادعة بالإزاحة النفسية، فهذا أمر طبيعي في كثير من الناس. أبدي دهشتي وما زلت، ممن يقومون دائما بعمل «منشن» أو إشارة لك، فتشعر إذا لم تتفاعل معها أنهم قد يشعرون بتجاهلك لهم، دون إدراك لحياتك وما فيها، وتخفيه كثيرا عن الناس، من آلام أو انشغال، لذلك لا أفعل أنا ذلك. حولت المسألة إلى الضحك فكتبت على صفحتي «بوست» أقول فيه، إن كثيرين يقومون بعمل «منشن» لأصدقائهم، لكن الحكومة لا تقوم بعمل «منشن» لنا في ما تفعله، وأنا أيضا لا أفعل ذلك، فهل أنا حكومة؟ وتتالت على «البوست» التعليقات الجميلة.
لكن يظل أيضا الجانب الذي أراه، أن من يفعل ذلك يعرف أنك من محبيه، وهذا جميل، حتى لو لم تلتفت إليه أو لم تدركه. أقصد «المنشن» وليس الشخص. لكن من الحديث عن التجاهل لك بعد الفوز منك بما يريد الآخر، فإن إجابتي على من قالوا ذلك، أن الأدباء والفنانين مثل كل الناس. تظهر نزاعاتهم أو شطحاتهم في بعضهم أكثر داخل كل بلد. الصداقات مع الكتّاب من دول أخرى لا تتعرض لذلك، لأنه لا توجد أرض يتنافسون عليها بشكل مباشر، لذلك ظلت هذه الصداقات في مكانها أكثر. على الأرض الواحدة تشتعل المنافسة ولو في السر، وتنفجر في جلسات المقاهي أو الندوات أحيانا، لكنها الآن صارت تنفجر في المقهى الكبير، وهو فيسبوك أو السوشيال ميديا بشكل عام. كتابة قصة أو قصيدة أو رواية أو دراسة حقيقية تغنيك عن العالم، والعالم متسع بالقراء الذين لا تعرفهم، في بلدك وغيرها. هم زادك الحقيقي وليس دائما الكتاب من بني جلدتك، ولا ينتظرون منك أن ترده لهم ولو بكلمة، فنادرا ما تقابلهم. لكن مشكلة الحياة للأسف بشكل عام، أن الأمر السيئ يتصدر المشهد أكثر من الأمر الجيد، بل شجعت الميديا البعض على اختراع الأمر السيئ، باعتبار أنه سيجذب المتابعين أكثر. المضحك أنه لا يجذب ولا يتعظون. أقول هذا لكل من يشعر بالتجاهل غير المنتظر، أو ينشر كتابا جديدا وينتظر الاحتفاء به ولا يحدث. وأردد مقولتي التي مشت معي في العمر، أن الأدباء والفنانين مثل كل الناس، لا يمكن أن يكونوا كما تريد أنت. ولا أريد أن أردد المقولة الرائجة في الزمن، أن العداوة قائمة دائما بين أهل الكار الواحد. والكار طبعا هو الحرفة، بل انظر إلى نفسك وتساءل ألا تشغلهم الحياة كما تشغلك، خاصة من هم بعيدين عن السلطة وقراراتها. فالتفرقة مهمة بين الهامش والمتن. والأدباء والفنانون أكثرهم أهل هامش. والحمد لله لمن عافاه الله من المتن، أي السلطة، التي من الطبيعي أن تكون أفعالها محل انتقاد لتتقدم الدينا. يكفيك اكتئاب ما بعد الشراء لما تريد أن تأكل أو تلبس أو تعالج مرضك به. وهل تعرف كيف يعيش كل إنسان حقيقة، وهل يخلو من الهم أحد. هل تنسى ما قاله ابن عروس» ما حد خالي من الهم حتى قلوع المراكب».
كاتب مصري