عمان ـ «القدس العربي»: «ماذا بعد غزة؟» عنوان وثيقة على شكل سؤال حظيت بتوقيع وطرح العشرات من الشخصيات السياسية والوطنية الأردنية مؤخراً، وبينها لا بل أبرزها رئيس الوزراء الأسبق أحمد عبيدات وآخرون.
طبعاً، السؤال يطرح بعد «أردنته»؛ بمعنى أن النخب الخبيرة والحكيمة ترغب في بحث وتحفيز مؤسسة القرار للحصول على «إجابة وطنية» دون أن يعني ذلك بالضرورة التشكيك في قدرة المؤسسة على التعاطي والتكيف.
سمعت «القدس العربي» الرئيس عبيدات يطرح السؤال نفسه مباشرة على هامش نقاش مع نخبة شخصيات حاولت التأسيس لاستشارة تقود إلى «استدارة أردنية» بعنوان «أفضل الطرق والمواصفات في وصفة فلسطينية لا تجازف بمصالح المملكة الأردنية».
وجوب الوقوف أردنياً ومصلحياً عند السؤال لا يختلف معه ثلاثة خبراء استراتيجيون تناقشت معهم «القدس العربي» مؤخراً بدون تنسيق أو مساحات تفكير مشتركة أو تراتب زمني خارج سياق تداعيات 7 أكتوبر، حيث لا تختلف نسبة الإلحاح التي يلفت عبيدات النظر لها عن صيغة البحث عن «رؤية وطنية أعمق وفوراً» التي اقترحها الجنرال قاصد محمود، ولا عن وصفة «الأمور تغيرت واستجوبت استدارة» التي يتحدث عنها خبير من وزن الدكتور دريد محاسنة.
«أردنة» سؤال «ماذا بعد غزة؟» بكل بساطة اتجاه يطرح السؤال على مؤسسات القرار السياسية والسيادية في الأردن وليس على الجمهور.
المعنى أن شغف النخب في مسألتين بدا واضحاً ويحظى بالمزيد من التوافقات مؤخراً، وهما أولاً- التوثق من وجود خطة أو استراتيجية من حيث المبدأ ثم معرفة ملامحها، وثانياً معرفة ما الذي ينبغي أن تستعد له أو تواجهه المملكة إذا لم توضع أساساً خطة ما من أي صنف.
يسأل الأردنيون يومياً عن خطط حكومتهم بخصوص ما بعد غزة وكيفية التعاطي مع ملف تداعيات العدوان إسرائيلياً وفلسطينياً، لكن لا أحد يحصل على «إجابة شافية» إما بسبب «عدم وجود خطة» أو لأن الخطة اليتيمة الموجودة هي «الصمت والترقب والانتظار» وهي خطة ليست من الصنف الذي يقنع الشارع. لعبة الشارع بالمقابل «خطرة»؛ فقد وصفه لـ«القدس العربي» مسؤول أمني بارز ومتقاعد بأنه «مثل طفلك»؛ لن يرضى ولن يشبع مهما قدمت له. تلك تبدو مقاربة دقيقة في وصف الزاوية التي تقرأ فيها مؤسسات السلطة «سلوك الشارع من حيث المنح والحجب».
بين استشارة واستدارة…
وبما أن الموضوع الفلسطيني أكثر سخونة الآن ويدخل في كل مسامات الأردنيين، تصبح لعبة الشارع «أكثر خطورة» في اتجاهي الاستجابة له ولو بالقطعة والتقسيط، وتجاهله تماماً في إزاء قضايا مؤلمة، مثل فلسطين والتهجير والدم والتجويع. وعليه، لا يمكن القول إن لعبة العزف على «التوازنات» الداخلية والمصلحية قابلة لأن تعمر طويلاً في العمق الاجتماعي الأردني، ليس فقط لأن «الجرح الفلسطيني نازف وبشدة» ولكن لأن الأردني «قلق جداً» على مستقبله ودولته ومؤسساته ونظامه، حتى أحياناً أكثر بكثير من رموز الدولة والحكومة الموجودين الآن في المؤسسات.
وهو ما لمح له الناشط العشائري الوطني البارز الشيخ طراد الفايز، وهو يقدر بأن حماية «المؤسسة» حتى من اجتهادات مسؤوليها واجب وطني. لذلك، وإن طرحت الأسئلة الحرجة اليوم في الشارع والصالونات وبين المجموعات النشطة أو القلقة على «المسؤولين التنفيذين» أو من تيسر منهم، إلا أنها في سياقها مطروحة أيضاً على «الدولة العميقة» الأمر الذي يمكن اعتبار الاستمرار بتجاهله بمثابة إيذاء للذات. وهي مفارقة التقطها السياسي مروان الفاعوري وهو يقر أمام «القدس العربي: نعم، الشعب الأردني أحرص على مؤسساته من رموزها المختارين، ثم يضيف: اللعبة في غزة خطرة للغاية، وعلينا إذا حسمها العدو، لا سمح الله، ومصيرنا برمته مرتبط الآن بالصمود، وعليه سؤالنا الوطني هو «ماذا نحن فاعلون؟».
والساحة السياسية في الواقع مليئة ببعض الموظفين والمنظرين من جماعة «جرعة الثقة الزائدة» أو من طبقة «الخواجات» أو من المتبجحين في ادعاء الوطنية.
ورغم كثرة مثل هؤلاء فإن مستوى التشكيك في الوسط الشعبي بمنسوب مرتفع ينبغي أن لا يُقبل، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالثوابت. بكل حال، يظهر ذلك خللاً كبيراً، لأن «أزمة المصداقية» التي يقر بها الهرم الوظيفي برمته في الدولة وعلناً قبل تحول 7 أكتوبر، تنعكس الآن في مسألة حيوية ووجودية وبالغة الأهمية وبتوقيت غير ملائم إطلاقاً، وفقاً للفاعوري.
كما تطرح الأسئلة على الحكومة في عمان، لأنها المؤسسة الوحيدة المتاحة للاستفسار وحتى النقد وأحياناً التشكيك، لكن الحكومة في الملفات والقضايا الكبيرة قد تكون فعلاً «آخر من يعلم» بسبب الانغماس في اليومي والإجرائي.
بقية المؤسسات والأذرع الرسمية لا تتحدث، لا مع النخب ولا مع الجمهور، فذلك يؤسس إشكالية فصامية أكبر، برأي سياسيين كبار من بينهم طاهر المصري وعبيدات، اللذان «يحاولان» لكنهما لا يجدان في الجبهة الحكومية «من يمكن التكلم إنتاجياً» معه.
ولذلك سبب؛ فالمسؤولون والوزراء أقرب إلى «موظفي اختصاص «يتجنبون أصلاً الخوض في «المسائل المهمة» ونادراً ما يتحدثون في اختصاصهم، حتى إن نحو ثلثي الوزراء على الأقل لا يعرفهم في الشكل والمضمون المواطنون جراء الإفلات من الميكروفون وسياسة البقاء في المكتب وتجنب الميدان.
والمعطيات عن المسار والبوصلة والاتجاه في الملفات الكبيرة مثل «إسرائيل وفلسطين» إما «سرية ومكتومة» أو خلف الستائر والكواليس، ويترك للمواطن استنباطها أو حتى تخيلها، الأمر الذي يفسر عملياً غياب اليقين وكثرة الروايات التشكيكية والسرديات غير المعقولة، كما يشرح «ضعف بنية الرواية الرسمية» وعدم وجود على الأقل حلقات «مهنية» تعبر عنها أو تروج لها.
وهذا التراكم من الاجتهاد والكتمان يترك الساحة في الشارع للتيار الإسلامي وللمعارضين والنشطاء، لكنه يقود أيضاً إلى حالة جماهيرية عميقة لا تعلم ما الذي يحصل ويدفع في اتجاه بحث محموم أحياناً عن وصفات وفتاوى تنظيرية تلقى على رأس الدولة والمؤسسات التي تحترف وتجيد الصمت في التوقيت الخاطئ ثم تتحدث بكثرة في الوقت غير الملائم.
في الخلاصة، سؤال «ماذا بعد غزة؟» عميق ومهم، لكنه متعلق أيضاً بـ «العمق الداخلي» الأردني أكثر من إطاره الإقليمي والفلسطيني والسياسي.