الآيات القاصمة

حجم الخط
0

قادني التأمل في القرآن الكريم إلى معاينة كون الآيات في مختلف السور تتداخل وتترابط، وتتقارب وتتباعد، وتأتلف وتختلف. وجعلني ذلك ألاحظ أن بعض الآيات يمكن أن أميزها عن غيرها، وارتأيت تسميتها بـ«الآيات القاصمة» لأني وجدت فيها ما يمنحها هذه الصفة، التي تجعل أيا كان من الناس، مؤمنا أو غير مؤمن، يُسلِّم بها ويُقر بصلاحيتها. وهذه الآيات تتناول قضايا تهم الإنسان في ذاته، وعلاقته بغيره من الناس، في ما يتعلق بقضايا الدنيا. إنها «تقصم» ظهر غير المؤمن، لأنها تجعله «يقول» بصحتها وأحقيتها متى تأمل فيها بهدوء وبصيرة، حتى إن كان لا يِمن بها. كما أنها في الوقت نفسه «قاصمة» للمؤمن أو المسلم لأنها تقوم بالأثر نفسه لديه، ولكن في أمور تتصل، بصورة إضافية، بعالم الآخرة أيضا.
ولما كان ذهني منصرفا إلى محاولة البحث في أنواع الخطاب القرآني، عن طريق الاستفادة من الدراسات النصية الجديدة، تساءلت هل يمكن الانطلاق من دراسة البنيات النصية الكبرى لضبط وتحديد أنواع الخطاب، أم الانطلاق من البنيات الصغرى (الآيات) لذلك؟ أم يمكن المزاوجة بينهما؟ لكن ما انتهيت إليه عبر تسجيل ما أسميته «الآيات القاصمة» دفعني إلى الانطلاق من الآيات وفي الوقت نفسه محاولة معاينتها في ضوء النص القرآني بكامله.
لقد اهتم المسلمون قديما وحديثا بأقسام القرآن الكريم باعتماد معايير مختلفة ومتعددة، مثل المكان: المكي والمدني، أو الزمان: الليلي والنهاري، والمحكم والمتشابه، وما شابه ذلك. وكل تصنيف يتأسس على تصور محدد، ويرمي إلى غايات ومقاصد معينة. ومنذ أن ألحت عليّ فكرة تلك الآيات، صرت أرى أن طبيعة نزول القرآن الكريم منجما يفرض علينا الانطلاق من الآيات، لأنها هي الأساس الذي تشكل عليه النص القرآني برمته. وأن البحث في نوعية الآيات يمكن أن يساعدنا على الوصول إلى تحديد أنواع الخطاب القرآني بكيفية شاملة ودقيقة. إن الآيات التي يضمها القرآن الكريم مترابطة في ما بينها ترابطا قويا، إذ يمكن لكل، ولأي آية منه أن نجدها تتصل بغيرها في مختلف السور، وإن اختلفت السياقات التي ظهرت فيها، أو المقاصد التي ترمي إلى تحقيقها. وهذه الخاصية لا نجدها في أي نص من النصوص المقدسة أو غيرها.
ولما كانت الآيات تتصف بهذه الخاصيات المميزة بما فيها من ائتلاف واختلاف قرّ العزم على الانطلاق من تكوين صورة شاملة عن هذه الآيات، ثم بعد ذلك محاولة العمل على النظر إلى ما يتصل بها، أو يختلف عنها.
دفعني هذا الاختيار إلى البحث في الكتابات العربية الحديثة عن الآيات، وهل يمكن أن نجزئها، وننظر إليها في ذاتها، فتوصلت إلى أن هناك دراسات تعنى بنوع محدد من الآيات، وكان كتاب عطية محمد سالم من أوائل الكتب التي وقفت عليها. إنه يتناول «آيات الهدى والاستقامة». لقد ركز على هذا النوع من الآيات، وتتبعها في كل سور القرآن الكريم من الفاتحة إلى الناس، وفي كل مرة توظف فيها مادة الهدى والاستقامة يتوقف على خصوصيتها اللغوية والدلالية. فكانت دراسة شاملة ودقيقة. ووقفت على دراسة للباحثة فوزية يحيى سعيد عسيري التي، تناولت بدورها «آيات الهدى» ولكن بطريقة مختلفة ركزت فيها على الجوانب النحوية والبلاغية. ويمكن أن ندرج في نطاق الانشغال بالآيات كتاب علي بن سليمان العبيد «آيات الأحكام» وغير ذلك من الدراسات والمصنفات التي وإن عملت على دراسة شاملة للقرآن الكريم، نجدها تتوقف على نوع معين من الآيات ونعتها بوسم خاص يميزها عن غيرها، مثل آيات السكينة والطمأنينة، أو آيات الشفاء والاستشفاء وغيرها.
لكن ما تبين لي من خلال متابعة هذا النوع من الدراسات على أهميتها وفائدتها في تدقيق مباني ومعاني تلك الآيات، تظل منعزلة عن الآيات التي تختلف عنها، أو تقترب منها دلاليا، حتى إن عمد الدارس أحيانا إلى الوقوف مثلا على غيرها من الآيات التي تختلف عنها. إن دراسة آيات الهدى مثلا، لا يمكننا تناولها دون ربطها بنقيضتها الآيات التي تركز على «الضلالة» ودون وضع هذه الآيات في شبكة تتصل أطرافها في ما بينها، ائتلافا واختلافا، تظل دراستنا تجزيئية لأنها لم تضع ما انشغلت به في دائرة الكل الذي تنتمي إليه. لا أقصد بذلك أن هذا النوع من الدراسات «المونوغرافية» بلا أهمية، بل على العكس من ذلك، أرى أنه دون هذا النوع من الدارسات، لا يمكننا الوصول إلى الدراسة الكلية التي نروم الوصول إلى تحقيقها، لكن السعي إلى محاولة دراسة أنواع الخطاب القرآني لا يمكن أن يتم دون النظر في مختلف الأنواع التي يتضمنها في تآلفها وارتباطها ببعض. وفي هذا الإطار تأتي الدراسات الخاصة لتكون ممهدة لهذا النوع من الاهتمام. فكيف يمكن لدراسة أنواع الآيات الخاصة أن تكون مدخلا لدراسة أنواع الخطاب القرآني؟ وما هي أهمية دراسة أنواع الخطاب؟ وماذا يمكن أن تضيفه الدراسة النوعية للخطاب القرآني في عملية الفهم والتفسير؟ إنها أسئلة سرديات القرآن الكريم.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية