الذّاكرة ليست مرحلة نعود لها لنبعث من أعماقنا «الزّمن الجميل» ربّما تكون لحظة منه، ولكن لحظة مفعمة بالطفولة، بمجريات الحياة ذات حين، التي نبحث عنها فلا نجد لها أثرا، ولهذا أعتبر الذاكرة فضاء ممتدا في الزّمن، قد ينبسط في المستقبل، لأنّ ما سيخزّن فيها من أحداث ينبثق في لحظة ما ويكون دافعا لنا نحو الآتي.
رمضان شجو الذّات حين تتلاشى عنها أردية الجسد، فتطفو الرّوح متراقصة على إيقاعات العمق النّابت في مراتع «الجوع المقدّس». تحلّ مثل هذه المناسبات كل عام، فنستقبلها كما لو أنّها لم تغادر، نستمر في هالاتها متناسين الزّمن الفاصل بيننا وبينها لمدّة، تماما كما الطفولة، نلتقي أصدقاءنا بعد أن اختلفت بنا المسارات، فنتعانق كما لو كنّا فقط البارحة معا، أي أنّ المعنى في الطفولة مستمر لا ينقطع، وهو ما يفسّر حالة الطفل الذّي يسكننا.
لا أذكر من صومي الأوّل سوى أنّه كان في فصل الصّيف، حيث الحرارة مرتفعة والعطش يستنزف كل طراوة في الحلق، فيبدو وكأنّه مسرح لريح عاتية، غابت عنّي الآن كل تفاصيل البهجة الأولى للصّيام، لم أعد أذكر العسل والحلويات والمقبّلات وزيّ المناسبة، وزغاريد النّساء اللواتي يتحينَّ الفرص لمثل هذه الأجواء، فقط ما بقي عالقا في الذّاكرة هيئة القُلَّة وهي رابضة في تلك الزّاوية من فناء بيتنا الفسيح تحت الجدار، الذي يوفّر شيئا من الظل، مغلّفة بقماش أكياس الخيش، كانت والدتي تدسّ في جنباتها حبّات من القمح، يتفتقن بفعل الرّطوبة أوراقا خضراء رقيقة، تضفي على لون الخيش البني حيوية استثنائية، كنت أنظر إلى القلّة وكأنّي أحادثها من بعيد، مستجديا إياها الزّحف نحوي، وفي لحظة توجّهت إليها وصببت الماء، فبدا رقراقا صافيا في ذلك الوعاء من الألومنيوم، أقرّبه من فمي فأسمع نداء أمّي بأنّه لم يتبقى إلا القليل من الوقت، لقد مرّ نصف النّهار، حينها لم يعد معنى أن تخيط لي الوقت لأتمّ حساب اليوم صائما، حيث أفطر بين زمنين وهي تتولى رتق ذلك الفراغ في يوم الصّيام.
كان يكفي في طفولتي أن تكون مائدة رمضان في الفطور خالصة لفضيلة الجوع المقدّس، فلم تكن تتعدّي التمر واللبن، ثم تتلوه الحريرة (الحساء) وبعدهما القهوة، وبعد صلاة التّراويح، تجتمع العائلة حول صينية الشّاي لإحياء سهرة رمضان، ثم بعد ذلك العشاء وفي آخر الليل ينهض الجميع على قرع الدَّنْدَانْ (المسحراتي). طبعا لقد انحسرت الطبيعة الاستهلاكية المتوازنة لصالح الشّراهة، وأصبحت مائدة رمضان حاليا تعج بما لا يصل ربعه إلى البطن، فقد أمسى الإسراف سيّد الموقف.
من الطفولة الأولى في رمضان، ولمّا أبلغ حينها سنّ التّمدرس، أذكر أنّني وقفت ليلتها قبالة المسجد العتيق أتأمّل ذلك الأزهري الجالس خطيبا ومرتّلا، يومها لم أكن أعي شيئا عن رحلة الأزهر في وجدان الحضارة العربية والإسلامية، فقط دهشة الطفولة كانت حاضرة أمام مشهد غريب، كل شيء مختلف، الهيئة، اللباس والصّوت، كانت العروبة تعني فقط أنّ هذا الشّيخ من مصر وجاء إلى مدينتي الجنوبية ليستقرّ في المسجد، ما زلت أحتفظ بصورة المنبر وهو على غير عادته، لا يحتضن إمام القصر «سِيدْ العربي». ومن الطفولة أيضا، في ليلة من ليالي رمضان سألت جدّتي عن ذلك الكلام المنغّم الصّادر من المسجد، أجابت بسرعة، إنّها «صَلَوَاتَنْ» فيما بعد تبيّن أنّه الدّعاء الجماعي بعد صلاة التّراويح. بعد ذلك بسنين قليلة، وفي ليلة القدر بالذّات، وقفت أمام المسجد العتيق بالقصر، كما الأطفال متجمّعين أمام الباب الرّئيسي، لم أكن مشاغبا، فجأة خرج أحد الشّيوخ، بيده عصا حديدية، وأخذ يركض خلف الأطفال الذين ملأ زعيقهم ومشاكساتهم الأزقة المحاذية للقصر، جريت، ولم أتوقف إلا بعد أن أحسست ضربة القضيب الحديدي تهوي على مرفقي، هرعت إلى البيت باكيا، خرج أبي رحمه الله ليتحقّق من الأمر فعاد بجرح أسفل عينه، وتأكّد أنّ الشّيخ المعتدي أحد معارفه، يومين بعد ذلك حضر جمع من الشّيوخ للمصالحة.
لم أكن أفرّق بين شعبان ورمضان في طفولتي، حتى ظننت أنّ الثاني امتداد للأوّل، فبِتُّ في كبري أطلّ على رمضان من شرفة شعبان الغائب الذي يعبر زمن الوصل بلا أثر، كان ذاك الزّمن السّعيد في قصرنا العتيق. كانت الجدّة رحمها الله تتهيّأ لرمضان، باعتبار شعبان عتبة للشّهر الفضيل، كانت مداوِمة على طلاء البيت بالبياض الجيري الممزوج بالأزرق الذي يتدفّق على جدران الطّين وكأنّه سيول الحياة تعيد إلى البيت رونقه بعد عام من الرّكض خلف معيش زائل، كان حينها «القصر العتيق» كلّه يعيش تدفّق الحياة من جديد عند عتبات هذا الشّهر. كنت أعبر الأزقّة وألوان من الخضرة الخفيفة مسبلة عليها، بسبب انعكاس ضوء النّهار على جدران الطين المائل لونها إلى الأخضر الدّاكن، فأُخطف في ظلّ رفرفة السّتائر الرّاقصة في بهاء اللون السّحري، وأهيم في هذا المتاه مسافرا على أجنحة من خيال، حيث لا حدود ولا حواجز ولا ممنوع.
بعد طلاء البيت بالجير، تنخرط الجدّة مباشرة في شراء بعض الخضروات ومنها الفلفل الأخضر الذي بعد أن يُشوى، يجفّف بنشره على قطعة قماش في الهواء الطلق، كذلك كانت تشتري الطماطم (البندورة) وتضعها في قدر كبير فيه كمّية من الماء وتطبخها حتى تتحلّل ثم تعبّئها في قارورات زجاجية، كانت أيضا تجفّف «الملوخية» الطّبق الأشهر في المنطقة في أيّام الصّيف، هذا كلّه يتم في ظل جوٍّ شعائري مهيب مكثّف بالدّعاء والتذكير بالرّحمات المتنزّلة في هذا الشّهر، وكان كل هذا ينعكس على كياناتنا كأطفال، نعيش السّعادة القصوى في ظلّ هذا المناخ الرّوحي والفرجوي والاحتفالي بقدوم الشّهر الكريم.
كان رمضان الشّباب متعة الحياة حين تفيض علينا بهالات من الرّوح، لا ندرك متعتها إلا حين نفتقدها، كان الصّباح مجمّلا بالنّداوة الأولى لنسائم مهرّبة في يوم مقبل تسكنه الحرارة، ويجفّ فيه الحلق وتتراخي فيه أوصال الجسد، كنت وعبد المجيد صديقي العاشق للقراءة، كثيرا ما نتردّد على المكتبتين الخالدتين، «العالم» و«ابن خلدون» نقتني من المجلات والجرائد ما يشبع نهمنا للمعرفة، «الصياد» «الوطن العربي» «العربي» «الشّرق الأوسط» وغيرها، لندلف بعد صلاة الظّهر إلى منزلنا بالقصر العتيق، نفترش لحفا رقيقة لعلّها تسرّب إلينا برودة مترجّاة من بلاط إسمنتي أخضر لامع لشدّة ملاسته، كان زقاق بيتنا (رواق) كما الغرفة المجهّزة بمكيّف رفيع، حين نفتح باب البيت ونسلمه لرفرفة ستار يغرينا بحضور الانتعاش، رغم صهد الهبوب، لكنّنا كنّا نعالجه ببلل يغمر رأسينا وأجزاء من جسدينا، بل حتى بعض ثوبنا.
في المساء كان التوجّه مباشرة إلى صلاة العصر في مسجد «السّوق» وبعدها نمكث بالقرب منه، حيث لم يكن المكان كما هو اليوم هرجا ومرجا، كان الشّارع تقريبا ساكنا إلا من بعض الحركة التي لا تضجر، نتجاذب أطراف الحديث إلى حين وقت الغروب حيث ننخرط في طقوس التّحضير للإفطار كفَرْشِ فناء المسجد الذي تمّت تغطيته في ما بعد، بعد دلق الماء على أرضيته للتّبريد، ثم يبدأ النّاس في القدوم. أهم ما ميّز تلك المرحلة، نهاية السّبعينيات وبداية الثمانينيات، هو متعة الحياة الاجتماعية داخل فضاءات العبادة، كان ارتياد المسجد على السّليقة وعفوية اللقاء مع الرّوح دون تنميقات زائدة، حيث الشّيوخ بعباءاتهم الفضفاضة Gandoura التي تعبّر على نمط للزّي التقليدي وثقافة محلية أصيلة، أيضا العمامة والسّروال الواسع Bouboule، كانت الشّعائر بسيطة لا تعبّر سوى عن لحمة مجتمعية تسير سيرها الخافت خلف خرير الرّوح.
أبحث عنّي فلا أجدني ولا أجد شعبان، أدركت وأنا أعيش الكهولة أنّه لا مذاق لرمضان خارج المكان، لقد خضع الوجدان والذاكرة فينا للتّعليب، كما مقتنياتنا أيضا، لقد صرنا كائنات استهلاكية فقط، لا وقت لديها لاستعدادات الفرح والبهجة الغائبة.
كاتب جزائري