لندن- “القدس العربي”:
مع استمرار الحرب الطاحنة على غزة، والمجاعة التي تلوح في الأفق، علينا متابعة الصور التي تخرج من الحرب، والقول إن “هذا ليس طبيعيا”، كما تقول المعلقة في صحيفة “الغارديان” نسرين مالك. وتشير إلى أنه لو عدنا بتفكيرنا إلى أوائل عام 2022، أي منذ أكثر من عامين، لرأينا الفرق بين غزة وأوكرانيا في التعامل.
فقد شكل غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا صدمة، بسبب الخروج عن عقود من الإجماع السياسي، حتى أنه تم التعامل معه باعتباره عملا عدوانيا لا يمكن قبوله ويجعل من تحقيق السلام معه مستحيلا، بل تم رفض بوتين على وجه السرعة.
وكانت الإدانات والحزن والتعهدات بتقديم الدعم، سواء بالنسبة للجهود العسكرية التي تبذلها أوكرانيا أو للنازحين، تشير جميعها إلى نفس الشيء: “ما حدث كان لا يمكن السماح له أن يمر”.
وتقول مالك: “لكنه مر. ومنذ ذلك الحين تكبدت روسيا خسائر فادحة، ويشار إلى الحرب الآن على أنها مستنقع بالنسبة لبوتين، لكنه مر”.
فالدعم الأمريكي بالسلاح لأوكرانيا يتضاءل، وظلت حزمة مساعدات ضخمة عالقة في مجلس النواب الأمريكي منذ أشهر، وقد عرقلها اختلاف الحزبين الديمقراطي والجمهوري. و”من اللافت للنظر”، تقول مالك، “كيف تحول الغزو من الأخبار المهمة والسياسة إلى مجرد موضوع آخر يتنافس على الاهتمام والتعاطف والغضب. فمن التفاهات الفاحشة للحرب، أنها إذا استمرت لفترة كافية، فإن الحياة سوف تعيد ترتيب نفسها وتواصل المسيرة”.
وتركز الكاتبة انتباهنا أكثر، قائلة: “تخيل الآن عملا عدوانيا لم يكن له مثل هذه الإدانة العالمية الكاملة، ولا تعهدات بتقديم حزم مساعدات كبيرة ولا دعما أو مخططات للاجئين”.
في الواقع “تخيل دولة يتم تقديم المساعدات والدعم العسكري لها، ولكن للطرف الذي يقتل المدنيين ويغزو أراضيهم. ما مدى صعوبة الحفاظ على هذا الشعور بالإلحاح والغضب لإبقائها في العناوين الرئيسية ومواصلة الضغط على السياسيين ولإبقائها حية في قلبك؟”.
مر ما يقرب من ستة أشهر على الهجوم الإسرائيلي على غزة. ولكن حتى في حين أن صور الأطفال الموتى المدفونين تحت الأنقاض باتت تفسح المجال أمام صور الأطفال الموتى الذين أنهكهم الجوع، إلا أن هناك شعورا واضحا بالتلاشي.
وبالتأكيد تقول مالك إن “بعض هذا التلاشي مقصود. لماذا يتم إبقاء مسألة تثير أسئلة محرجة للسياسيين في دائرة الضوء ومن نفس السياسيين الذين إما دعموا تصرفات إسرائيل أو تباطأوا في إدانتها. والنتيجة ليست مجرد التجنب، بل التخفيف”.
وتقول الكاتبة إن حجم الأزمة في غزة لا يأتي إلينا من منابر الرئيس الأمريكي أو المتحدثين باسمه، ذلك النوع من الممثلين الذين يتحدثون (بشكل صارخ) عن جرائم الحرب الروسية وكيف لا ينبغي التسامح معها أو تطبيعها.
ففي الذكرى السنوية الأولى لغزو أوكرانيا، ألقى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، خطابا أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وقال: “مع مرور الأيام بعد الفظائع التي ترتكبها روسيا، فمن السهل أن نصبح مخدرين أمام الرعب، ونفقد قدرتنا على الشعور بالصدمة والغضب. ولكن لا يمكننا أبدا أن نسمح للجرائم التي ترتكبها روسيا أن تصبح أمرا طبيعيا جديدا، فما حدث في بوتشا وماريوبول وإيربين ليس طبيعيا. إن قصف المدارس والمستشفيات والمباني السكنية وتحويلها إلى أنقاض ليس أمرا طبيعيا”.
وتدفع الكاتبة بالقول إن ما يحدث في غزة “ليس طبيعيا، لكنك لن تسمع بلينكن يناشدك ألا تصبح غير حساس تجاهها. وبدلا من ذلك، ستأتي منظمات حقوق الإنسان والخبراء والمراسلون وعمال الإغاثة الذين يحذرون من أن ما يرقى إلى “الإبادة التامة” ليس استثنائيا فحسب، بل يتجاوز الوصف”.
ولكن جهودهم الجماعية، رغم ما تتسم به من إعجاب ومصداقية، تجد نفسها في عنق الزجاجة عندما تصل إلى القوى القادرة على فعل أي شيء حيالها.
لذا، فحقيقة الهجوم على غزة وكونه تسبب بـ”أكبر مجموعة من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ”، وأنه إذا ظلت الأمور على ما هي عليه، فسوف تواجه غزة أزمة هي “الأشد منذ الحرب العالمية الثانية”.
وتعلق الكاتبة أن الطريقة التي يتم فيها تضخيم مثل هذه الفظائع التاريخية يتم ضبطها دائما بشكل مصطنع على مستوى أدنى بكثير مما ينبغي، ويتم ضبطها حاليا في حدها الأقصى.
وترى أن محاولات الإسكات تترك أثرها في قمع وخنق الأفراد من عامة الناس الذين حاولوا، منذ أشهر، من خلال الاحتجاج والحملات الانتخابية، إبقاء هذا الصوت مرتفعا قدر الإمكان، وليقول ببساطة إن “هذا ليس طبيعيا”. فلم يتم تجاهل رسالتهم فحسب “بل يجري قمعها بشكل نشط من خلال محاولات حظر الاحتجاج تماما، أو الإيحاء بلا هوادة بأن الأمر يتعلق بشيء آخر.. أي شيء آخر، وليس الغضب والقلق بشأن مصير هؤلاء في غزة. والنتيجة الغريبة تقريبا هي أنه بينما يجوب مئات الآلاف الشوارع في مختلف أنحاء العالم أسبوعيا، ويخبرون ممثليهم بما يشعرون، فإن أصواتهم يتم كتمها، أو يتحدث الآخرون نيابة عنهم، حيث يقدمهم السياسيون على أنهم يشكلون مثالا للتهديد والخطر الذي يتربص بالبلاد”.
ثم هناك فقط التعب والإرهاق الناتج عن الغضب، ومن التعرض للأحداث من قبل السياسيين، ومن التعرض لأحداث لا يمكن لأي إنسان أن يشهدها لفترة طويلة من الزمن دون ظهور نوع من التخدير، ودافع الدفاع عن النفس. إنها ضربة مزدوجة تأتي من التعرض للإرهاق من المشاهد والتصريحات، التي ينشرها الجنود والمسؤولون الإسرائيليون بشكل عرضي أو يتم الحصول عليها من كاميراتهم الخاصة، لمدنيين عزل يقتلون بصواريخ المسيّرات، ولكن أيضا الصمت عنها من جانب الجهات الرسمية، حتى مع تمزيق اللقطات عبر رسائل الواتساب وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي.
ويأتي “التعود” أيضا من تقديم أعمال الإنسان بنجاح على أنها أعمال الله. كلما مر الوقت ولم يتم فعل أي شيء بشأن غزة، كلما استقرت في مجمع الصراع العالمي كأمر معقد للغاية (مستنقع إذا صح التعبير) لا يمكن معالجته. وهو إلى حد ما، عمل من أعمال الطبيعة، بمعنى أن التحالفات السياسية والموروثات التاريخية التي جعلت ذلك ممكنا، لا يمكن التراجع عنها دون تعطيل كبير للتسويات السياسية والعسكرية والعنصرية المستمرة منذ عقود. كيف لا يبدأ التعب عندما يستيقظ المرء كل يوم ليخوض معركة مع آلهة الجيوسياسة؟
وهذا أمر يعول عليه المعتدون والمحرضون. وسوف تأتي لحظة ما، عندما تتحرك الأمور ببساطة من خلال القوة المطلقة للطبيعة البشرية، والدورات الإعلامية، والانطواء السياسي، وخاصة مع اقتراب الانتخابات الحاسمة. يبدو الأمر كما لو أن اللحظة التي سيؤتي فيها هذا الرهان ثماره تقترب.
وتقول إن نافذة الاشتباك ونطاقها العالمي دامت بالفعل لفترة أطول مما توقع أي شخص، الأمر الذي أخطأ الساسة في تقديره وأحبط جهودهم الرامية إلى إدارة الرأي العام. ومع الغزو البري لرفح والمجاعة الشديدة التي تلوح في الأفق، فإن الضغط على إسرائيل ومؤيديها قد يستمر في تحدي كل الرهانات السياسية.