القاهرة ـ «القدس العربي»: تعتبر أعمال وليم شكسبير (1564 ـ 1616) من النصوص الكلاسيكية التي اختبرها الزمن، فأصبحت صالحة للعرض في أزمنة وأماكن مختلفة، بل وثقافات مختلفة تمام الاختلاف عن شكسبير وعصره. كذلك لم تقتصر هذه المعالجات المتواترة لنصوص شكسبير على المسرح، بل امتدت إلى وسيط آخر يختلف في تقنياته وأساليبه الفنية والجمالية، وهو الوسيط السينمائي (الفيلم).
فهناك بعض القضايا التي تتشابه أو ترتبط بمجتمع معين، يجد صانع الفيلم أن مناقشتها تستوجب الاستناد إلى مصدر أساس أو عدة مصادر ـ قد يمتد الاقتباس إلى عدة أعمال ـ أو أن العمل الأصلي مجازاً هو الأنسب لتناول هذه القضية أو تلك، وبالتالي تحدث عملية (العبور الثقافي) بمعنى انتقال موضوعات وشخصيات تمثل حالات وأفكارا نشأت في ثقافة معينة، وتم نقلها والتعبير من خلالها عن موضوعات وقضايا تنشغل بها ثقافة أخرى. وهو ما سيتضح من خلال مسرحية «ماكبث» والأفلام التي تناولتها، والتي تنتمي إلى ثقافات مختلفة (اليابان، أستراليا، الولايات المتحدة).
ماكبث شكسبير
في المقدمة المختصرة لترجمة مسرحية ماكبث يستعرض حسين أحمد أمين ظروف كتابة المسرحية، وشخصية ماكبث الأصلية، وكيفية معالجة شكسبير لها لتتوافق مع السياق السياسي والفني، بمعنى المناخ الثقافي بشكل عام وقت كتابتها، التي يمكن ذكرها في اختصار شديد، لما له من توضيح لأسباب اقتباسها وإعادة معالجتها في الأفلام المختارة.
وحسب أمين فالمسرحية تلمّح إلى ما يُعرف بمؤامرة البارود التي دبّرها بعض الكاثوليك لنسف البرلمان، وقت اجتماعه بحضور الملك جيمس الأول، لرفضه إعطاءهم المزيد من الحرية في ممارسة عقيدتهم، وكان الهدف من محاولة التفجير هذه الاستيلاء على السلطة بعد الفوضى التي كانت ستحدث جرّاء التفجير، وربما التخلص من جيمس الأول وبرلمانه، وهو ما لم يحدث بالطبع، فقد ضُبط المتآمرون وتم إعدامهم. فكتب شكسبير المسرحية التي تتعرض إلى موضوع التآمر على قتل الملك الشرعي واغتصاب السلطة، ومصير التمرد والخيانة. (بتصرّف. أمين 6). إضافة إلى المعالجة التي أجراها شكسبير على الشخصية الرئيسية (ماكبث) ومخالفته للحقائق التاريخية، أي أنه بدوره اقتبس العمل من واقعة تاريخية ذكرها المؤرخ الإنكليزي رفائيل هولنشيد في القسم الخاص بأسكتلندا، وأعد معالجة مختلفة تماماً للأحداث الحقيقية، «فاستيلاء ماكبث على السلطة كان رد فعل على مخالفة (دانكان) للتقاليد وتوصيته لابنه بالعرش، الذي كان من حق ماكبث، إضافة إلى أن سنوات حكم ماكبث كانت سنوات رخاء كما ذكرت كتب التاريخ». (أمين 7). والخلاصة أن هناك اضطرابات سياسية وتناحرات ومحاولة للاستيلاء على سلطة شرعية، ومصير مأساوي في النهاية. ومن خلال الأفلام المختارة، والمتباينة زمنياً وثقافياً يمكن رصد أسباب فكرة اقتباس (ماكبث) والمناخ الثقافي العام الذي أُنتجت من خلاله هذه الأفلام، وكذلك مدى اختلاف المعالجات عن نص شكسبير.
أزمنة مضطربة
في فيلم «عرش الدم أو قلعة شِباك العنكبوت» يتخيّر كوروساوا العصور الوسطى في اليابان، من خلال مجموعة من محاربي الساموراي المخلصين للحاكم الإقطاعي. زمن التناحر هذا بين الإقطاعيات يردّنا إلى زمن إنتاج الفيلم عام 1957، ونستشهد بعبارات من كتاب «اليابان رؤية جديدة» لباتريك سميث، فيقول إنه «بعد انتهاء الحرب قامت الولايات المتحدة بعملية تطهير واسعة في مجال العسكريين، حيث تم التخلص من معظم القوميين المتعصبين الذين خاضت أمريكا الحرب لهزيمتهم. أما في المجالات الأخرى كالسياسة والاقتصاد فكان التطهير شكلياً، بل إنهم هم الذين تم استخدامهم في تنفيذ برنامج التطهير… وبعد ما يزيد قليلاً على عشر سنوات بعد الحرب، تولى رئاسة الوزارة في اليابان أحد الذين اتهموا بارتكاب جرائم حرب» (سميث 24) فالصراع وقت كوروساوا تحوّل من صراع الساموراي إلى صراع حزبي ترأسه قتلة، وفي ظل دولة مستقلة شكلياً، لكنها لم تزل مُحتلة بالأساس من عدو أجنبي يريد صياغتها على شاكلته.
أما فيلم «ماكبث» الأسترالي من إخراج جيفري رايت 2006 فيُعالج النص من خلال العالم السفلي ـ عالم الجريمة ـ لمدينة ملبورن أكبر ثاني المدن الاسترالية بعد سيدني، ويجعل من ماكبث رجل عصابات يسعى للسلطة من خلال القضاء على رجل العصابة الأكبر، وقد أصبح لا يكتفي بتمثيل دور التابع. ورغم التناقض الظاهر لهذه المدينة السياحية والهادئة، إلا أن الفيلم في ذلك الوقت يجسد موبقاتها كمدينة كبيرة للمال والأعمال والجريمة، على غرار نيويورك أمريكا.
وبينما يعود كوروساوا إلى القرون الوسطى، وجيفري رايت للعصر الحالي، يجرّد جويل كوين زمن فيلمه «مأساة ماكبث» 2021 من تحديد الفترة الزمنية، رغم الالتزام بملابس وديكورات تعود إلى عصور قديمة. لكنه يجسد حالة طاغية جديد استمالته السلطة، ولم يستطع التنازل عنها. وقد جاء العديد من الكتابات لتعقد مقارنة بين وقت إنتاج الفيلم والمناخ السياسي في الولايات المتحدة، فكان دونالد ترامب هو (ماكبث الأمريكي) الذي رفض ترك السُلطة فانقسم المجتمع الأمريكي وانتهى الأمر بمشهد اقتحام الكونغرس.
شخصية ماكبث
لا تبدو شخصية ماكبث عند كوروساوا كما في نص شكسبير، فماكبث كوروساوا يبدو متردداً وأقل دموية، لكنه بمجرد تورطه في عملية القتل الأولى، لم يستطع بعد ذلك التوقف، فالرجل هنا طموح وجبان إلى حدٍ كبير، وكان لا بد من وجود أكبر لدور زوجته، التي أصبحت تضخم الفكرة التي كانت كالوحي من قبل ـ اللقاء بروح الشيطان في الغابة ـ التي جسّدتها أمام عينيه في العديد من المخاوف. ماكبث هنا كان يرتضي بسلطته التي أعطاها له السيد الحاكم، لكن الزوجة أشعلت الخوف والقلق. وحتى تقضي على تردده أخبرته بأنها حامل في وريث لعرش لا بد أن يكون. ويؤكد ذلك جو الضيعة التي أصبح حاكمها، قبل قتل الحاكم واغتصاب السلطة، حيث الهدوء وبعض الفلاحين وما شابه من الأجواء المستقرة، بخلاف انتقاله لقلعة الحاكم، حيث يحيطه العسكر في كل مكان، والكثير من الظلام والأجواء المتوترة، بخلاف مناظر النهار الريفية، والإضاءة المنتشرة أغلب الوقت.
أما ماكبث الأسترالي، فهو رجل عصابات جريء ومتهور ويحلم بالسلطة، وإقصاء الرجل الأول، فهم كلهم ليسوا نبلاء ولا أرستقراط، كلهم مجموعة من القتلة وتجار المخدرات. دور زوجته هنا رغم حلمها أيضاً بالسلطة ليس كدور الزوجة في فيلم كوروساوا، ببساطة زوجة رجل عصابات، لم تزل تريد التمتع بمباهج الحياة وتحلم بأن تكون (سيدة العصابة الأولى). وعلى خلاف ذلك يأتي فيلم «مأساة ماكبث» فماكبث وزوجته تخطيا سن الشباب، فلا أمل في الإنجاب، وكأن الحياة تكاد تنتهي، فكان التطلع إلى السلطة، أو بمعنى أدق الفرصة الأخيرة لتتويج رحلة شجاعة رجل عسكري لم يجن شيئاً فعلياً حتى الآن. هكذا يعتقد وهكذا يقين زوجته.
الساحرات
اختلفت جميع المعالجات السينمائية السابقة من حيث شخصية (ساحرات الغابة). ففي قلعة العنكبوت، تبدو الروح الشريرة في شكل كائن مُسن، مُحاط بسياج وهمي، يُغلفه الضباب. وقد تم اختصار الساحرات الثلاث في هذه الشخصية، التي تمتلك قدرات خارقة في حرية الظهور والاختفاء. روح الغابة هذا، الذي يمتلك روح الشيطان، ويقضي على المسافرين في النهاية. فهي من البداية نبوءة شؤم، لم يلتفت إليها ماكبث، الذي كان لم يفق بعد من نشوة انتصاره. بينما ساحرات ماكبث الاسترالي ـ الأكثر جرأة وحداثة ـ فهن فتيات مراهقات، يرتدين الزي المدرسي، وكأنهن في نزهة، أو فرار من مواعيد الدرس المفروض، هؤلاء وبعد قتله للرجل الكبير ــ بما أننا في جو العصابات ــ يقمن له احتفالاً ماجناً، ويمارسن الجنس وسط صخب الأصوات والأغنيات والموسيقى، كذلك صخب لوني من خلال الإضاءة، وكأنه في إحدى علب الليل ـ الأماكن والأجواء التي يعرفها ـ وقد استتبت له السلطة أخيراً. الأمر أشبه بحفل تتويج مَلكي يليق به.
أما ساحرات ماكبث الأمريكي فتم التعبير عنهن من خلال شخصية واحدة، قد تبدو مفردة، أو تصبح نفسها مُعبّرة عن الساحرات الثلاث، لكن من خلال بعض الحركات الجسدية التي توحي بأنها تمتلك قدرات خارقة، وأنها ليست من البشر. والساحرات في النهاية حسب كتاب «شكسبير: ابتكار الشخصية الإنسانية» لهارولد بلوم «يشتركن مع ليدي ماكبث في إقناع ماكبث بالتخلي عن نفسه، أو هن بالأحرى يقمن بإعداد مكبث لتلقي الإغراء الأكبر من امرأته على ارتكاب عنف مُحرّم». (بلوم)
المكان
اعتمد كوروساوا على الطبيعة وجعلها مُشاركة في الأحداث، كالغابات والضباب وصوت الغربان والأمطار، كذلك الإيحاء الدائم بالتجريد للمكان في الداخل، كالمساحات الواسعة، والطرقات، والحجرات التي تكاد تخلو من الزخرفة. مع اختلاف الإضاءة من السطوع والانتشار في البيت الريفي، عندما كان حاكماً للإقطاعية، بخلاف الإضاءة الخافتة داخل قصر الملك، وكأنه في حالة خوف ووحدة دائمة.
أما الغابة من خلال الأشجار والأجواء الضبابية وكأنها تعكس روحه وما تصبو إليه، وكأنه في حلم بالسلطة بعد لقاء الروح الشرير، وهناك اختلاف تام قبل وصوله هو وصديقه إلى الغابة، في الإضاءة، وبمجرد الدخول إليها والسير بين الأشجار المتشابكة، وكأنه بالفعل وقع في شَرك لن يستطيع الفكاك منه. أما مكبث الاسترالي، فالأماكن تبدو ضيقة، ولا توجد مساحات واسعة، كما أن أغلب الأحداث تتم في الليل، وهو ما يقترب أكثر من أجواء أفلام الجريمة، حيث التباين اللوني الحاد وانتشار الظلال. بينما يعتمد ماكبث الأمريكي على التجريد التام للمكان ـ تأكيداً لتجريد زمني في الأساس ـ وقد اعتمد المخرج الأبيض والأسود، وهو ما يُذكر بأسلوب التعبيرية الألمانية، فالفيلم أيضاً لا يستطيع إلا أن يصبح فيلم مؤامرة وجريمة، ليقترب بدوره من الفيلم نوار. وهناك تأثر واضح بفيلم أورسون ويلز «ماكبث» 1948، الذي اعتمد التعبيرية الألمانية من حيث الإضاءة وزوايا التصوير. مع ملاحظة أن ويلز أخرج فيلمه في الوقت الذي بدأ فيه الصراع على السلطة في العالم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان هناك خوف من نشوب حرب أخرى. لكن المخرج هنا اعتمد أسلوباً مسرحياً أكثر منه سينمائياً، اللقطات الطويلة زمنياً، إلقاء حوارات شكسبير، وكأن الممثل يخاطب الجمهور، وهو أمر يتفق تماماً مع شخصية مأساتها نفسية بالأساس بعد التورط ـ ولو بإرادتها ـ في أفعال القتل المتواترة، فهناك مساحة شاسعة من الأضواء والظلال تقع في مبانٍ ضخمة، تتيح بسهولة سماع أدق الأصوات، وكأنها تمثل حالة العزلة التي يعيشها ماكبث.
الأسلوب والتقنية
حشد كوروساوا العديد من الفنون التراثية اليابانية، بما أنه اختار القرن الخامس عشر في اليابان، فهناك مسرح النو، حيث الأقنعة وحركات الممثلين، والأكثر ملاحظة هنا هو وجه (آساجي) الزوجة ـ ليدي ماكبث اليابانية ـ الذي يتشابه وتحولاتها مع أقنعة هذا المسرح العتيق.
كذلك استعان كوروساوا بمشهد تمثيلي داخل الفيلم ـ أشبه بالمشهد التمثيلي في هاملت ـ حيث يصوّر أحد الممثلين في المأدبة التي أقامها ماكبث اليابان بتأدية مشهد قتل أحد الحكام، مما جعله يثور في النهاية. وهنا يختلف التوقع، فهاملت كان يريد من المشهد إثارة العم القاتل والمغتصب، لكن هنا يتوحد ماكبث مع عم هاملت في الجريمة، والوقوع تحت تأثير إعادتها أمامه، ولو من خلال ممثل عجوز. وفي النهاية لا يتم قتل الطاغية من جيش خارجي، لكنه قُتل بيد جنوده، كما فعل هو في السابق. ليصبح التساؤل هنا، ومن خلال المناخ السياسي والاجتماعي الذي أُنتج الفيلم من خلاله.. هل كان يأمل كوروساوا أن تتم حركة التطهير من الداخل، وهل كان يسخر من الأحداث الكاريكاتورية التي حدثت، وهل كانت الأحزاب اليابانية وقتها التي تتمثل صراط الديمقراطية الأمريكية، وماضي رجالها المخزي يستحق من مؤيديها هذه النهاية؟ ربما.
وبينما يختلف فيلم كوروساوا تماماً عن ماكبث شكسبير، ويُعد من أفضل المعالجات للنص الشكسبيري، يأتي الفيلم الاسترالي من خلال أسلوب بصري جديد ومعاصر، بداية من البيئة التي تحركت خلالها الشخصيات والأحداث، مع الحفاظ التام على الحوار الشكسبيري للنص، هذه المفارقة ما بين الشكل السردي وأسلوب الإخراج، خلقت حالة من التواصل أكثر في عملية التلقي. مع التذكير بأن هذا الشكل مع بعض الاختلافات، جاء في فيلم سابق، يختص بشكسبير أيضاً، وهو فيلم Romeo + Juliet إخراج باز لورمان 1996.
وباعتماد جويل كوين أسلوب التعبيرية الألمانية، نجده من البداية يمهد إلى عزلة البطل، ويُجسد أكثر صراعه النفسي وما يدور في عقله الباطن. مفسراً فكرة الساحرة أو الساحرات وكأنها الجزء الشرير في الإنسان، لذلك كان مستسلماً إلى حدٍ كبير إلى مصيره، كأخطاء البطل التراجيدي القديم. فجزء باقٍ من ضمير جعل أوديب يفقأ عينيه، بينما يبدو هنا بعض من ندم هو ما يجعل ماكبث الأمريكي يستسلم ولو بشكل أو بآخر إلى نهايته المحتومة، والمُقدرة سلفاً.