في مقالي «المسلسلات التاريخية: جدل اللغة والتاريخ» الذي نشر في هذه الجريدة الأسبوع الماضي، وأنا بصدد الكتابة عن الضجة المثارة حول مسلسل «الحشاشين» التي لم تهدأ إلى الآن وقد تجاوز المسلسل منتصفه، ذكرت أن منتقديه ركزوا على ناحيتين، أخطائه التاريخية واللغة العامية المستعملة فيه، وتغاضيت عن قصد، عن ناحية ثالثة أهم وهي التوظيف السياسي لأحداث المسلسل، لأنها جديرة أن تفرد بمساحة أكبر من التحليل من جهة، وبانتظار مشاهدات حلقات أكثر لنتبين حجم الإسقاطات السياسية على الأحداث الدرامية. والمتتبع لكثير من المقالات التي تناولت المسلسل يجدها تقول تصريحا ما قاله المسلسل تلميحا، فنقرأ العناوين التالية على سبيل المثال: «الإخوان امتداد طبيعي لجماعة الحشاشين في القتل ونشر الشائعات» أو «الجهاز السري للإخوان… من إرث الحشاشين إلى عباءة ستالين» أو«الحشاشين والإخوان.. كيف أصبح القتل عقيدة؟» أو«أبناء حسن البنا فى فخ جدهم حسن الصباح» وفي المقابل أيضا نجد من يرد على هذه المقالات باعتبار أن المسلسل يتبنى وجهة نظر مموليه، وأن صنّاعه يقفون إلى صف النظام وهم الناطق الإعلامي بتوجهاته، وإن من خلال الدراما التاريخية، التي قد تكون أشد تأثيرا في المتلقين من الخطابات المباشرة.
لست في مقالي هذا لإصدار أحكام، ولا لتبني مواقف بقدر ما أحاول رصد ظاهرة التوظيف السياسي في الدراما التاريخية، بما لها وما عليها. والحقيقة التي لا جدال فيها أنه لا يكاد يسلَم مسلسل أو فيلم تاريخي عربي أو غربي من هذا التوظيف خفي ذلك أو ظهر، ولعل المثال الفاقع لذلك الصورة الهوليوودية لتاريخ أمريكا، التي صوّرت لنا الرجل الأبيض المستعمر في شكل الحمل الوديع، الذي يحاول الهندي الأحمر المتوحش المتخصص في قطع الرؤوس بالبلطة إبادته، ومئات أفلام رعاة البقر، إلا استثناءات قليلة جدا تقدم هذه الفكرة مسلّمة لا نقاش فيها، أليس التاريخ يكتبه المنتصرون؟ فما بالنا إذا كان المنتصر يمتلك هوليوود أكبر إمبراطورية سينمائية على وجه الأرض. وإذا رجعنا إلى عالمنا العربي نستحضر مثالا نموذجيا لهذا التوظيف السياسي فقد أنتج سنة 1981 فيلم «القادسية» بتمويل عراقي من مؤسسة السينما العراقية ورصدت له ميزانية ضخمة قدّرت بخمسة عشر مليون دولار أمريكي بقيت إلى وقت قريب أعلى تكلفة لإنتاج فيلم عربي، واختير للتمثيل في الفيلم كوكبة من نجوم السينما المصرية والعربية على رأسهم عزت العلايلي وسعاد حسني، بقيادة صلاح أبو سيف واحد من أشهر المخرجين في ذلك الوقت عربيا وعالميا، لكن التوظيف السياسي الصارخ للسردية التي تبناها النظام العراقي آنذاك، والتي تصور معركة القادسية انتصارا للعنصر العربي على العنصر الفارسي مع استبعاد العامل الديني حوّلَ الفيلم إلى دعاية فاقعة للرؤية القومية البعثية، جعلت حتى المشاركين فيه يتنصلون منه فالمخرج صلاح أبوسيف «اعتبره من أسوأ أفلامه على الإطلاق» كما ذكر ذلك عنه الكاتب أسامة أنور عكاشة، وبطل الفيلم عزت العلايلي، صرح مرارا أنه لم يكن على علم بأنه سيجري استعماله كجزء من الدعاية من الجهة المنتجة.
وإذا كان فيلم «القادسية» مثالا نموذجيا على هذا التوظيف، فتجدر بنا الإشارة إلى أن الغالب من المسلسلات والأفلام ألصقت بها هذه الصفة بالباطل أو بالحق، ويحسن بنا أن نستحضر مثالا آخر عن فيلم «الناصر صلاح الدين» كان حظه أوفر من فيلم «القادسية» فكُتب له الانتشار بفضل أركان أربعة أعلت قيمته: فالجهة المنتجة كانت المؤسسة العامة للسينما في مصر وهي جهة حكومية تمتلك إمكانات كبيرة، والسيناريو كتبته مجموعة من أشهر الأدباء منهم، يوسف السباعي وصاحب نوبل نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي، ومثّل في الفيلم نجوم الدراما التاريخية في وقتهم أحمد مظهر وصلاح ذو الفقار وحمدي غيث وناديا لطفي وليلى طاهر، وكان ضابط إيقاع هذه التوليفة المخرج العالمي يوسف شاهين، فلا عجب أن احتل الفيلم المرتبة الحادية عشرة ضمن أفضل مئة فيلم في السينما المصرية، غير أن الناقد الفني طارق الشناوي، لا يبرئ الفيلم من الغايات السياسية فيذكر، أن «الهدف من إنتاج ذلك العمل الضخم هو إسقاط سياسي عبر استلهام بطولة السلطان صلاح الدين الأيوبي محرر بيت المقدس على عصر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وهو ما تكشفه بشكل واضح دلالة اختيار اسم الفيلم».
وفي العقد الأخير برع الأتراك في هذا التوظيف السياسي وقدموا سردية تعتمد الإبهار، أعادت تقديم تاريخهم منذ ما قبل الإسلام إلى زماننا الحالي وافتكت الإعجاب، حتى بمن كانوا يرونهم خصومَهم التقليديين، فسُخّرت مسلسلاتهم لتمجيد الشخصية التركية حتى في الزمن القديم، مثل مسلسل «الملحمة» عمّا قبل اعتناق الأتراك الإسلام في القرن التاسع الميلادي، أو مسلسل «نهضة السلاجقة» خاصة الجزء الثاني الخاص بألب أرسلان، وصولا إلى أيقونة المسلسلات التاريخية التركية «قيامة أرطغل» الذي أسال حبرا كثيرا، ورغم الانتقادات الكثيرة للمسلسل أبرزها، تزييف التاريخ وتضخيم بطولات الأتراك بتحويلهم إلى أساطير في الحروب، إلا أنّه استطاع إلى حد كبير إيصال رسالته، فأغلب مشاهديه في العالم العربي وهم من ذوي الثقافة التاريخية البسيطة أعجبوا بشخصياته وتعاطفوا معها وغيرت لديهم الصورة النمطية عن الأتراك وأصبحوا يرون في الخلافة العثمانية تجربةَ حُكم حسناتها أكثر من سيئاتها، وهنا تكمن خطورة التوظيف السياسي حين يصل إلى تخوم قلب الحقائق وتزييف الوقائع، ما جعل كثيرا من النقاد السينمائيين يعتبرون مسلسل «ممالك النار» ردا على «قيامة أرطغل» ومحاولة لمعادلة الكفة.
يجدر بنا القول إنه لا يمكن الاعتراض على التوظيف السياسي ولا يفعل ذلك إلا حالم أو واهم ففي النهاية للجهة المنتجة أهدافها ومواقفها ورسائلها التي تريد إيصالها، ابتداء من اختيار موضوع الفيلم أو المسلسل، ومن خلال الإجابة على أسئلة بديهية مثل لماذا هذه الشخصية وليست تلك؟ ولماذا هذه الفترة التاريخية وليست الأخرى؟ نستشف الغاية من وراء إنتاج الدراما التي في الأعم الغالب ليست ترفيهية، فحتى المسلسلات التاريخية التي قدمتها الدراما المصرية في منتصف القرن الماضي وركزت على الجوانب الإنسانية لا الجدلية في سيرة الشخصيات، مثل مسلسل «موسى بن نصير» أو «عمر بن عبد العزيز» لم تخل من رسائل أيديولوجية. فالتاريخ ليس محايدا وهناك دائما رواية أخرى تمثل الوجه الآخر للعملة فلا إجماع حتى على المقدسات ناهيك عن حوادث وماجريات تفصل بيننا وبينها أحيانا قرون بعيدة، كثير منها يحتمل قراءات وتأويلات تصل حد التناقض. غير أن هذا التوظيف السياسي يجب أن يبقى مضبوطا بأمرين: تجنب تزييف التاريخ والابتعاد عن النعرات الطائفية، إذ نتفهم أن الدراما التاريخية ليست نسخة مصورة عن كتب التاريخ فللتخييل فيها الكلمة العليا، باعتبار الإمتاع البصري والترفيه غاية أساسية في الأفلام، لكن قلب المسلّمات يُخرج الدراما التاريخية عن غايتها، كأن نشاهد فيلما تاريخيا يعتبر أن فتح الأندلس كذبة كبرى، أو أن سقوط القسطنطينية لم يحدث، يمكن ذلك في حالة واحدة أن لا نعتبره فيلما تاريخيا بل فانتازيا أو من قبيل أفلام الخيال.
أما إثارة النعرات الطائفية والعنصرية، فهو يجر ردة فعل مضادة فحين أعلن مثلا عن إنتاج مسلسل عن معاوية ـ حتى قبل إنجازه ومعرفة مضمونه ـ أعلنت قناة تحمل وجهة نظر مختلفة عن هذه الشخصية التاريخية رصدها ميزانية ضخمة لإنتاج مسلسل تاريخي بعنوان «شجاعة أبي لؤلؤة» الرجل الذي اغتال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. فنحن أحوج في هذه الفترة الحرجة من تاريخنا المعاصر إلى ما يجمع لا ما يفرق، وليكن التوظيف السياسي فنيا ناعما، لا مباشرا فجا، لأنه من طبيعة الإنسان الانتصار لأفكاره ومبادئه، وأوافق تماما ما ذهب إليه وليد سيف أحد أهم كتاب الدراما التاريخية حين قال في سيرته الذاتية «الشاهد والمشهود»: «لا تدوين التاريخ ولا قراءته بالعملية البريئة من التحيز الذي تمليه الرؤية الفكرية للقارئ والكاتب ومحتوى وعيهما». وعسى أن ينتصر الفن والجمال والإمتاع، وهي غاية كل دراما تاريخية ناجحة.
شاعرة وإعلامية من البحرين