عندما تكون البطولة ثمرة هزائم متكررة

عندما زار ألكسي كوسيغين فيدل كاسترو في هافانا، طلب منه عدم تحريض دول أمريكا اللاتينية على الثورة، فرد عليه كاسترو، أنه لا يحق له أن يقول له ما عليه فعله. وعندما كان أمام أرنستو غيفارا صندوقان عليه أن يختار بينهما، الأول فيه أدوية الربو والثاني ذخيرة، أخذ الذخيرة. وعندما انضم إلى حركة 26 يوليو بقيادة كاسترو، في الوقت نفسه تم قبول أوراقه للعمل في الطب، لكنه فضل مشاركة كاسترو بأفكاره «المجنونة» كما كان يسميها هو وزوجته هيلدا!
ركب 82 شخصا في قارب لا يتسع لأكثر من 12 راكبا، وما من أحد بينهم عنده خبرة بالإبحار، شقوا طريقهم من المكسيك إلى سواحل كوبا لمدة أسبوع وسط الأمواج العاتية ودوار البحر والظلام الدامس والأمطار الغزيرة، وهم يغنون للثورة، بقي منهم 12 شخصا فقط وسبع بنادق.
هذه هي البطولة وهذه هي مسيرة الأبطال، لكن حتى الأبطال مسيرتهم ليست كلها انتصارات، على العكس تماما، مرّ كاسترو وغيفارا بمراحل تعرضا خلالها للخذلان بعدة مواقف على امتداد مسيرتهما النضالية.
بعد أن مرت علاقة كوبا مع الاتحاد السوفييتي بمرحلة ذهبية فترة حكم خروتشوف، ساءت مع وصول بريجنيف لسدة الحكم، فلم يكن مهتما بتبني علاقات ودية مع كوبا. ومع إسقاط حكومة بن بله، خسر كاسترو صديقا آخرا، وخسر معه إمدادات الأسلحة عن طريق الجزائر. وموقف عبد الناصر السلبي من تطلعات غيفارا أيضا خسارة أخرى، خصوصا أن عبد الناصر لم يعترف بشرعية حرب العصابات التي كان غيفارا ينادي بها.
وحرب الكونغو التي جمع فيها غيفارا حوله بعض أبناء البلد لإسقاط النظام أيضا فشلت. لأسباب عدة، أهمها طوبوغرافيا المكان التي تختلف كليا عما تم تزويده بها قبل قدومه، حيث أعطي فكرة أن المنطقة التي سيحارب فيها منطقة مسطحة، بينما على أرض الواقع كانت أرضا جبلية وعرة، والأهم من ذلك القبلية التي واجهها هناك، والتي لم يتعامل معها من قبل في كوبا. وأخيرا في بوليفيا التي لم يتعاون فيها السكان المحليون وشكوا في نواياه من شن معركة ضد النظام في بلد ليس بلده، فتم تطويقه وإعدامه بالرصاص.

الفرق بين شخصية كاسترو وغيفارا

كاسترو بدأ حياته محاميا درس القانون ويعرف كيف يستفيد منه وشعبيته بحجم طموحاته،
غيفارا طبيب رحالة لم يهتم بالسياسة قبل اجتماعه مع كاسترو، وكان يعمل كمصور فوتوغرافي ليسد نفقاته. كاسترو سياسي دبلوماسي، غيفارا نزق دوغماتي، كاسترو كان يريد تصدير ثورة كوبا إلى شعوب العالم التي تناضل لنيل استقلالها، غيفارا اهتم بحرب العصابات وتعلم كثيرا من كاسترو في حرب سيارا مايسترا، كاسترو عمل تحت الأضواء وغيفارا عمل في الظل، لكن رغم ذلك الواحد منهما يكمل الآخر، ربطت بينهما صداقة وثيقة منذ أن التقيا في المكسيك لأول مرة، وقتها سألت هيلدا كاسترو عن سبب وجوده في المكسيك، وهو من كوبا، فاستغرق جوابه لها أربع ساعات ونصف الساعة، هذه هي شخصية كاسترو البوهيمي والعفوي التي طبعت كل حركته بشخصيته، هل يعقل زعيم سياسي بحجمه يركب سيارة الجيب المكشوفة، ويقودها بنفسه بلباسه العسكري والسيجار في فمه! يستضيفه برنامج أمريكي مهم وهو يرتدي بيجاما النوم و وابنه فيليديتو أيضا بالبيجاما! لم يستقر في بيت واحد عاش في الفنادق، كل لقاءاته الصحافية في غرفة نومه، يبدأ مساء وينتهي منها في ساعات الصباح الأولى! عبر المجاري! وسبح عاريا من المكسيك إلى أمريكا ليحصل على تمويل لحركته! ألقى خطابا في عمر الـ89 وهو يرتدي ملابس رياضية.

كاريزما فيديل كاسترو

أما خطاباته فكلها ارتجالية وليدة اللحظة صادقة وقريبة من هموم الناس، يجتمعون حوله وهم يحملون مصابيح الكاز ويجلسون على الإسفلت ليصغوا لكلامه الحيوي، مع ذلك لم يكن عنده نية بأن يستلم السلطة وحتى عندما فرّ باتيستا قام كاسترو بتسليم أوروتيا رئيسا للبلاد وعين مجلس الوزراء وطالب الناس بالالتفاف حول الرئيس إلا أن الناس والرئيس ذاته كانوا يقصدونه لحل مشاكلهم، هذا الحب هو ما كان يهمه وهذا ما نوه عنه في خطابه التاريخي بعد عبوره البلاد في خمسة أيام من سانتياغو إلى هافانا في احتفال عفوي ندر وجوده على مر التاريخ، وأجمل ما توج هذا الخطاب الحمامتان اللتان أصرتا على الوقوف على كتفه طوال الوقت. ترى اليوم، هل حققت ثورة كوبا ما كانت تحلم به؟ صحيح المباني اليوم أغلبها من أيام الاحتلال الإسباني شاحبة ومهلهلة، والمشاكل الاقتصادية ما زالت تعصف بها، صحيح أنها بلد زراعي، لكن ما زالت مشكلة الغذاء موضوعا ساخنا، إلا أن أي إنسان بسيط في الشارع تسأله عنه، يقول لك بأننا نحبه، يجب عدم نسيان الحصار الاقتصادي الجائر ثمن مواقف كوبا المشرفة، وكما قضى على الهيمنة الأمريكية في بلاده وأمم الشركات الأمريكية العملاقة التي كانت تستعيد شعبه وفتح البلاد للاجئين من دول أمريكا اللاتينية الأخرى و وأصدر قانون الإصلاح الزراعي وأسس الحزب الشيوعي وخفض الإيجار للنصف ورفع الرواتب وأصدر ألف قانون جديد لصالح أبناء شعبه، وعلى الصعيد الخارجي دعم الشعوب المفاضلة لنيل استقلالها وعاش بقية حياته وسط الناس واحدا منهم بعد مسيرة حافلة بالبطولات.

كاتبة سورية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية