طوال قرون سابقة، يجزم البشر أن الرجال وضعوا أنفسهم في مرتبة عالية لا تستطيع النساء بلوغها، مهما كان مقدار ما نالته من حقوق أو حتى ما أحرزته من نجاحات؛ فقد تم حصر النساء في دائرة دورها داخل المنزل وتربية الأولاد والرِّعاية، تبعا لطبيعتها البيولوجية التي تسمح بذلك، لكن في خلال ذلك الإطار أيضا، تمت برمجة القوى الإدراكية والذهنية للإناث ليس فقط لتقبُّل ذلك الدور، بل أيضا للاعتقاد بأن المرأة لا يمكن لها الخروج عنه.
ومع الخطوات الحثيثة نحو التقدُّم والقفزات التكنولوجية الهائلة، التي يشهدها العالم بداية من تسعينيات القرن العشرين، أصبح العالم على شفير تغيير هائل يستهدف ليس فقط الأصول التكنولوجية، بل يتَّخذ من إعادة توزيع الأدوار المنوط بها كل فرد على سطح الأرض؛ من أجل خلق نظام عالمي جديد، لم يتسن لجميع حكومات العالم والهيئات البحثية العالمية أن تتبيَّن ملامحه بدِّقة حتى الآن.
هذا الوضع غير المفهوم في الوقت الحالي يثير مقاربة شارحة له لحد بعيد. فأسس العالم المتقدِّم الجديد غير الواضحة تذكَّرنا بمشهد مفصليْ ساخر في رواية «مزرعة الحيوانات» Animal Farm (1945) للكاتب الإنكليزي العبقري جورج أورويل (1903-1950) الذي استطاع في رواياته أن يرسم الأُطُر الرئيسية لعالم المستقبل؛ فمثلا رواية «1984»، ساهمت في كشف اللثام عن حقيقة المستقبل المدموغ بتقدُّم تكنولوجي هائل. أمَّا رواية «مزرعة الحيوانات»، فهي إجمالا أنموذج لأي إطار بشري، وتوضِّح أن أي شبهة فساد تشوب أي نظام جديد، حتى لو كان عظيما، قد تفضي إلى تدمير مبادئه وتدمير البشر – سواء أكانوا ممن آمنوا به أو ممن فُرض عليهم تقبُّله كأمر واقع إجباري الوجود، وحتى لو اختلف تأويل الرواية تبعا للمكان والزمان، تظل تلك الفكرة الجوهرية هي أساس ذاك العمل العبقري برمَّته.
وفي ذاك المشهد المفصلي من الرواية، الذي يمكن بالأحرى أن يُطلق عليه «ماستر» Master Scene، النعجة «مولي» التي قد نال منها الزمن وتشوَّشت قدرة إبصارها، حتى مع وضع نظارة سميكة العدسات على عينيها؛ لتحسين الرؤية، تقف مع أصدقائها أمام اللوح الذي كُتبت عليه المبادئ السبعة للثورة، التي قادتهم للحرية، ولتعميق أثرها في نفوسهم، تعيد قراءة المبادئ على سمع الأجيال الجديدة، الذين لا يجيدون القراءة. وتزداد دهشتها عندما تشعر بأن كل مبدأ قد تمّ التلاعب بألفاظه حتى يعنى عكس تماما ما وُضع من أجله، وأحد تلك المبادئ المهمة هي «الجميع سواسية»، لكن تم تحريفه بإضافة «وإن كان البعض متساوون أكثر من الآخرين». ويُختتم المشهد بأن النعجة «مولي» المُسنَّة تشكك في ذاكرتها وتقنع نفسها بكل الوسائل أن تلك هي بالفعل المبادئ الأصيلة للثورة. وهذا بالفعل حال العالم في الوقت الحالي، الذي طالته مقدِّمات الثورة الصناعية الكبرى التي سوف تعمل على إعادة تشكيل وهيكلة المستقبل؛ فكل ما توصَّل له البشر من تقدُّم تكنولوجي وسيبراني، ما هو إلَّا مجرَّد مقدِّمة لطوفان عارم. ومع وصول الذكاء الاصطناعي للمشهد، قرعت نواقيس الخطر بشدة لعل البشرية تستفيق وتأخذ حذرها.
يجب الأخذ في الاعتبار أن تكلُفة التحديث باهظة جدا؛ فهناك إجماع على أنه بتطبيق نظم الذكاء الاصطناعي الحديثة في مجالات العمل لسوف تختفي نحو 14% من الوظائف الحالية نتيجة للأتمتة خلال السنوات الـ 15 إلى 20 المقبلة، ومن المرجح أن يطرأ تغيير جذري على 32% من الوظائف الأخرى، بسبب الأتمتة وتغلغل الذكاء الاصطناعي في جميع مفاصل الحياة الحديثة. وعلى هذا، تطلَّب الوضع الجديد إعادة صقل وتحسين مهارات 54% من جميع الموظفين بحلول عام 2022، وازداد هذا الرقم بسرعة فائقة عام 2024، ومن المنتظر أن يصبح سوق العمل أكثر شراسة في الأعوام المقبلة. بيد أنَّ، في أوروبا، أصبح 40% من أصحاب الأعمال غير قادرين على العثور على موظفين يتمتعون بالمهارات المطلوبة لتحقيق النمو والابتكار. وبالنظر للوضع في دول الاتّحاد الأوروبي فقط، يلاحظ أنه واحد من كل ثلاثة موظفين يعمل في وظائف على شفير الأتمتة؛ ما أجبر واحد من كل عشرة عمَّال على فقدان وظيفته بسبب أن مهاراته باتت بائدة.
ومن ثمَّ، فشلت شريحة كبرى من العمالة في تلبية متطلبات المهارات الواجب توافرها في بيئة العمل الجديدة، ما اقتطع نحو 11.5 تريليون دولار من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي المحتمل في دول مجموعة العشرين، على مدى الأعوام العشرة المقبلة. وفي ظل ذاك التغيير الشَّامل والدعوة إلى إعادة هيكلة المهارات، ظهر الخطر الأعظم؛ وهو إمكانية إقصاء الذكور عن سوق العمل. فمنذ الماضي وحتى الوقت الحالي، مجالات العمل المتاحة للإناث، سواء مدفوعة الأجر أم لا، تدرّ دخلًا ضئيلا، حتى لو كانت الأنثى حاصلة على شهادة جامعية، مقارنة بأي عامل في موقف سيَّارات؛ فهو قد يجني أضعاف ما تتقاضاه، على الرغم من أنه قد يكون بالكاد مُلِما بالقراءة والكتابة. فقد حصر المجتمع وظائف المرأة في مجالات تختص بالرعاية والعمل الاجتماعي والثقافي، وقل وجودهن في الوظائف القيادية كالطب والهندسة والعمل السياسي والوظائف التكنولوجية؛ فنسبة مشاركتهن لا تزال هامشية.
وفي قمة دافوس الأخيرة 2024 في سويسرا، تمت مناقشة ما سوف يحلّ بالمشهد الاقتصادي من اضطراب واسع المدى بسبب الأتمتة الشاملة والاعتماد على الذكاء الاصطناعي الذي سوف يصبح الطبيب ومحلل الأبحاث ومحلل البيانات وموظف المبيعات والعامل الذي يتمتع بقوة بدنية هائلة، والسائق الذي يقود السيارات والحافلات، وغيرها من الوظائف التي تتطلَّب مهارات فائقة، أو قدرات جسمانية قوية. أمَّا الوظائف المتاحة فسوف تكون أغلبها في مجال الرعاية، والهندسة والحوسبة السحابية، وتسويق المبيعات والمحتوى الإعلامي على التطبيقات الرقمية، والبيانات والذكاء الاصطناعي (A.I.)، والوظائف الخضراء التي تراعي شروط البيئة، والعناية بالأفراد والثقافة، ومديري المشاريع المتخصصة. ويلاحظ أن عدد الوظائف الأكبر هي تلك التي تختص بمجالات الرعاية والثقافة والعناية بالأفراد والوظائف الخضراء، وجميعها وظائف كان يتم تركها للنساء بسبب أنها تتماشى والدور التقليدي المنوط لهم كأم أو ربة أسرة، وكذلك هي وظائف لا تدر دخلا وفيرا، ولهذا لا يقبل عليها الذكور.
أشيع منذ عقود ماضية مقولة: «المستقبل امرأة»، فهل سوف تتسيَّد النساء سوق العمل في الحقبة المقبلة؟ وهل سيقبل الذكور على وظائف الرعاية التي لا تدر إلَّا دخلا زهيدا لا يوفِّر حياة الرفاهية؟ في الواقع، صار المستقبل من الصعب التكهُّن بتغيراته وتبعاته، لكن ما يمكن الجزم به أنه سيصبح ساحة صراع بين الإنسان والآلة ورغبة أصحاب الأعمال على دفع رواتب عالية للعمَّال، وسينحسر دور الإنسان ووجوده لأكبر حدّ ممكن، ودون شكّ، سوف تصير الآثار سلبية ليس فقط على مجتمع الذكور، بل على البشر أجمعين الذين سيطالبون بالمساواة مع الآلة.
كاتبة مصرية