بعد الذي جرى ويجري للفلسطينيين في غزة من قتل ممنهج وتدمير شامل لكل ما فيها من صور الحياة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، فإن هذه الكارثة تشير وقائعها الدموية، التي تتزاحم أخبارها يوميا على شاشات القنوات الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، بأنه سيكون من نتائجها تبعات غير مطمئنة أبدا، ليس لأهل غزة وحدهم، إنما للدول المحيطة بفلسطين، وبقية دول المنطقة العربية، وربما ستكون مآلاتها أشد كارثية مما يمكن توقعه، وسيطرح سؤال من وحي هذه الهواجس من الصعب تجاهل أهميته: هل ما يزال هنالك إجماع بيننا على أن المثقفين العرب يعبِّرون عن ضمير أمتهم؟
ظاهر المشهد الثقافي لا يوحي بأي علامة إيجابية تنفي حالة التشاؤم التي ترمي بظلها الثقيل على مجمل تفاصيله، فقد تراجع حضور فلسطين في ذاكرة النتاج الثقافي والفني، سواء في السينما أو المسرح أو الرواية أو النتاج الدرامي، فمن الواضح أن عملية طوفان الأقصى التي جرت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 كانت نقطة تحول في منظومة أولويات حياتنا العربية بشكل غير متوقع، فقد انفرط ما كان يشد بعضنا إلى بعض في النائبات على الأقل من الناحية الوجدانية، بعد الحالة السلبية التي ظهر عليها العرب، حُكَّاما وأنظمة وشعوبا، وفي المقدمة منهم شريحة المثقفين، حتى الأغاني الوطنية التي رددتها أجيال بعد أجيال، مثل «الوطن الأكبر، أصبح عندي الآن بندقية، راجعين بقوة السلاح» لم تعد تبعث فينا الحماسة، ولا الأشعار التي تتغنى بالمفاخر ما عادت تلمس مشاعرنا، وكأن قضية غزَّة بفصولها الموجعة، تجري في قارة بعيدة عن بلاد العرب، فلا حاجة تفرض عليهم الاهتمام بها.
أقصى ما أقدم عليه العديد من مثقفينا، أن اكتفوا بتسجيل أسمائهم في قوائم إلكترونية، تم نشرها في مواقع التواصل الاجتماعي، تضامنا مع شعب غزة، وكأن لسان حالهم، يقول: «لقد فعلنا ما نستطيع القيام به». فهل هذا الموقف، هو ما يمثل أضعف الإيمان لدى النخب المثقفة؟
لا أستطيع أن أصف فعل المثقفين الذين يخذلون العدالة بذريعة الظروف التي تكبل إرادتهم، سوى أنهم يضللون شعوبهم بعملة مزورة، ليشتروا بها تعاطفا واحتراما، لكن بأسلوب قائم على الخديعة، وما أكثرهم، وفي ما لو وضعت أمامهم هذه الحقيقة، ستكون حجتهم بأن كل أبواب المواجهة لاستعادة الأرض والحقوق المغتصبة غدت مغلقة أمامهم، وبذلك سيكون عذرهم أشنع من هشاشة موقفهم. فهل أصبح واردا أن نرى مثقفينا ينتظرون موافقة رسمية من السلطات حتى يكشفوا الحقيقة ويدافعوا عنها؟ متى كان مطلوبا منهم أن يستجدوا بشكل ذليل حرية التعبير دفاعا عن قضية فلسطين؟ هل باتوا يجدون في المبررات تلو المبررات، وسيلة للتنصل من مسؤوليتهم الأخلاقية؟ متى كانوا يسدّون آذانهم حتى لا يسمعوا صراخ الضحايا المدنيين المحشورين تحت أنقاض بيوتهم؟ ألا يعد ذلك انخراطهم في مستنقع الفساد الذي شاع واستشرى طولا وعرضا في أمة العرب؟ هل قيم الشرف والكرامة الوطنية لم تعد ضمن فضائل الثقافة العربية؟ ما المعايير التي أمسى المثقفون يحتكمون إليها عندما يدور الحديث في ما بينهم عن القضية الفلسطينية؟
لا أظن أننا قرأنا عن زمن أسوأ مما نشهده اليوم، إذا ما تحدثنا عن قيم الأخوّة والوطنية والإنسانية في عالمنا العربي. أنا هنا لا أستطيع أن أبرر الصمت المريب الذي سقط فيه خيرة مثقفينا، بل أشير إليه بإصبع الإدانة، فمثل هذا المناخ المحتقن بصور القمع والموت العبثي والاستهتار بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، يفرض عليهم أن يمارسوا عبر نتاجهم الثقافي والفني والأنشطة المنظماتية كل أساليب المواجهة لتعرية المشروع الصهيوني.
وحتى الشعوب العربية التي تأخرت ستة أشهر عن حدث 7 أكتوبر قبل أن تخرج للشارع دعما لأهل غزة، كما هي حال التظاهرات التي شهدتها عمَّان والقاهرة في نهاية شهر مارس/آذار، يقع عليها أيضا ما يقع على المثقفين من إدانة لتراخيها في التعبير عن موقفها. طبيعة المثقف تتجلى عندما لا يكون أنانيا ومنكفئا على ذاته وغير مهتم بمصائب البشرية، بل يتخذ خطوة جريئة وواضحة إزاء قضية عامة، حتى لو كانت حركته بالضد مما تذهب إليه السلطة، مثلما كان عليه موقف عدد من المثقفين الفرنسيين في خمسينيات القرن الماضي عندما عارضوا استمرار احتلال فرنسا للجزائر، وموقف أميل زولا في كتابه «إني أتهم» الذي دافع فيه عن الضابط دريفوس بعد أن وجهت له تهمة الخيانة.
هل من أدلة أخرى يحتاجها المثقفون (بعد احتلال وتدمير العراق عام 2003 من قبل الأمريكيين، وما تلا ذلك من أحداث شهدتها المنطقة العربية، أفضت نتائجها إلى تمزيق عدد من الدول العربية مثل سوريا واليمن وليبيا السودان) حتى يقتنعوا بأن ساسة أمريكا والغرب شركاء أصليون في تنفيذ أجندة المشروع الصهيوني؟ وأن المراهنة على وهم انفراط الشراكة بين هذه الأطراف، والتي مصدرها الأخبار والتقارير التي تتحدث عن خلافات بينهم، لا قيمة ولا مصداقية لها؟ وما جدوى نتاجنا الثقافي إذا ما خذلنا غزّة في لحظة حرجة من تاريخها؟
كاتب عراقي