بعد الجلسة المخصصة لانتخاب رئيس مجلس النواب التي جرت يوم 13 كانون الثاني 2024، وقد وصفناها في مقال سابق بالمهزلة، رفعت في اليوم التالي دعوى لدى المحكمة الاتحادية العليا تطالب بعدم دستورية الجلسة، وبإلغاء كافة الإجراءات والقرارات التي صدرت عنها والنتائج المترتبة عليها. وقد أصدرت المحكمة قرارها يوم 1 نيسان، أي بعد 78 يوما، برد الدعوى، بدعوى أنّ هذا الموضوع يخرج عن اختصاصاتها الواردة في الدستور!
ولا يمكن فهم هذا التأخير في الرد في هذه القضية، حيث كان يفترض البت فيها سريعا بعدم الاختصاص، دون الدخول في «مرافعات» عبثية، إلا من خلال إدراك المنهجية التي تعتمدها المحكمة في الربط بين السياق السياسي، وتوقيت إصدار القرارات.
والأمثلة على هذه المنهجية كثيرة؛ ففي 2010 مثلا، وبعد تأكد رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي حينها، من خسارته الانتخابات، وفوز القائمة العراقية برئاسة أياد علاوي، أرسل بتاريخ 21 آذار 2010 كتابا إلى المحكمة الاتحادية، يطلب فيه تفسير عبارة «الكتلة النيابية الأكثر عددا» الواردة في المادة 76 من الدستور. وقد أصدرت المحكمة قرارها المرقم (25/ اتحادية/ 2010) بتاريخ 25 آذار، أي بعد أربعة أيام فقط، قالت فيه أن الكتلة النيابية الأكثر عددا هي التي تتشكل بعد الانتخابات وليس الكتلة الفائزة في الانتخابات! وبعيدا عن التسييس الذي حكم القرار الذي أطاح بعلاوي وأتاح للمالكي العودة إلى ولاية ثانية، فإن ما يعنينا هنا هو سرعة صدور هذا القرار الذي لم يأخذ سوى ثلاثة أيام، والسبب وقتها، كان، بطبيعة الحال، ضرورة إصدار القرار قبل الإعلان الرسمي للنتائج النهائية للانتخابات، والتي أعلنت يوم 26 آذار، أي بعد يوم واحد من القرار!
ولعل المثال الأوضح في سياق تسييس المحكمة لقراراتها وضبط توقيتات البت سياسيا، قرارها المرقم (59/ اتحادية/ 2012 وموحدتها 110/ اتحادية/ 2019) الصادر بتاريخ 15 شباط 2022 والخاص بمسألة النفط والغاز في إقليم كردستان؛ والذي أفتت بعدم دستوريته وفقا لأحكام المادة 112 من الدستور، بعد تأخير عشر سنوات كاملة! رغم أن المحكمة نفسها كانت قد أصدرت قرار بالرقم (8 / اتحادية/ 2012) قالت فيه إن «أحكام [هذه] المادة موقوفة حاليا إلى حين تشريع القانون الخاص بذلك والذي ينظم أحكام هذه المادة» القانون الذي لم يشرع الى اليوم!
وبعيدا عن الانتهاكات الخطيرة التي تضمنها هذا القرار للنص الدستوري نفسه، والذي أوضحناه في مقالة سابقة، فإنه لا يمكن، أيضا، فهم هذا التأخير إلا في السياق السياسي وليس الدستوري، فالقرار كان عقوبة صريحة للإقليم على دخوله التحالف الثلاثي مع الصدريين وتحالف السيادة، فضلا عن أنه جاء في سياق سياسة منهجية يعتمدها الفاعل السياسي الشيعي لتقويض سلطة الإقليم، خاصة وأن الانقسام الحاد بين الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، أضعف الإقليم تماما وجعل الاتحاد أقرب إلى المركز، وإن قوّض ذلك سلطة الإقليم!
وفضلا عن تحكم السياق السياسي بقرارات المحكمة الاتحادية العليا، وخضوع تلك القرارات لإرادة ومصالح الفاعل السياسي الشيعي الأقوى، فإن قرارها الأخير يتناقض مع قرارين آخرين صادرين عن المحكمة نفسها في وقت سابق!
لا يمكن للمحكمة الاتحادية هنا أن تتعكز على «العدول»، الذي تستخدمه بشكل مجاني لتسويغ قراراتها المتناقضة التي يفرضها العامل السياسي
فقد نظرت المحكمة دعوى تتعلق بعدم دستورية الجلسة المنعقدة يوم 26 نيسان وإلغاء النتائج المترتبة عليها كافة، وأصدرت المحكمة قرارها المرقم (38/ اتحادية/ 2016 وموحداته) بتاريخ 28 حزيران 2016 الحكم بعدم دستورية تلك الجلسة وإلغاء القرارات كافة التي اتخذت فيها، ولم تقل يومها أن ذلك ليس من اختصاصها!
ونظرت في دعوى أخرى تتعلق بالطعن بدستورية الجلسة الأولى لمجلس النواب التي انعقدت بتاريخ 9 كانون الثاني2022 وطلب إلغاء كافة الإجراءات والقرارات التي صدرت فيها، وكافة النتائج التي أفضت اليها. وقد أصدرت المحكم قرارها المرقم (5 وموحدتها 6/ اتحادية/ 2022) والذي قررت فيه دستورية تلك الجلسة، ولم تقل يومها إن ذلك ليس من اختصاصها!
ولا يمكن للمحكمة الاتحادية هنا أن تتعكز على «العدول» الذي تستخدمه بشكل مجاني لتسويغ قراراتها المتناقضة التي يفرضها العامل السياسي، لأن مسألة الاختصاص لا علاقة لها بالعدول!
لا بد من الانتباه أيضا إلى أن هذا القرار يأتي بعد إصدار المحكمة الاتحادية قرارها المرقم (322/ اتحادية/ 2023) غير المفهوم، ردا على طلب يتعلق بالآلية الواجب اتباعها في حال عدم حصول أي من المرشحين لمنصب رئيس المجلس على الأغلبية المطلوبة في الجولة الأولى! وأن يتم التنافس في الجولة الثانية بين المرشحين الحاصلين على أعلى الأصوات. أم يستبعد المرشحون لهذا المنصب الذين لم يفوزوا بالأغلبية المطلوبة ويقتصر فتح باب الترشيح على مرشحين جدد؟
وكان جواب المحكمة الاتحادية «ملغوما» كالعادة، ففيما يتعلق بموضوع الدعوى قالت المحكمة إنه في حال عدم حصول أي مرشح على الأغلبية المطلوبة «في تلك الجلسة او الجلسات التالية بعد الجلسة الأولى من ضمن جميع المرشحين في الجلسة الأولى، باستثناء من يطلب الانسحاب من الترشيح)» وهذا خلاف ما جاء في المادة 59/ ثانيا من الدستور التي يفترض أن تسري على انتخابات رئيس مجلس النواب بشكل مطلق! بل أن المحكمة «اجتهدت» وأضافت حكما لا علاقة له مطلقا بموضوع الدعوى، إذ قررت «وجوب استمرار مجلس النواب بأداء مهامه خلال الفصل التشريعي وتنعقد جلساته برئاسة أحد نائبي الرئيس لحين انتخاب رئيس جديد له، وأن لا يكون عدم انتخاب رئيسا جديدا مبررا لتعطيل عمل مجلس النواب». وهذا القرار يخالف ما جاء في المادة 55 من الدستور التي قررت أنه «ينتخب مجلس النواب في أول جلسة له رئيسا، ثم نائب أول، ونائبا ثانيا بالأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس بالانتخاب السري المباشر»! ويفترض أن هذا النص يسري على انتخاب رئيس مجلس النواب في حالة شغور المنصب أيضا، كما جاء في النظام الداخلي لمجلس النواب الذي نص في المادة 12/ ثالثا على أنه «إذا خلا منصب رئيس المجلس او أي من نائبيه لأي سبب كان ينتخب المجلس بالأغلبية المطلقة خلفا له في أول جلسة يعقدها لسد الشاغر» لان الأسباب التي دعت المشرع لأن يشترط انتخاب رئيس المجلس في أول جلسة للمجلس بعد الانتخابات، هي نفسها التي يجب أن تسري في حال شغور المنصب.
ومرة أخرى لا يمكن فهم هذا القرار إلا في سياقه السياسي، حتى وإن كان مخالفا للدستور والنظام الداخلي لمجلس النواب وللمنطق أيضا، فقد كانت هناك رغبة سياسية للفاعل السياسي الشيعي لاستمرار عمل المجلس من دون رئيس، وقامت المحكمة الاتحادية بتحقيق تلك الرغبة، بل إن طلب الاستفسار نفسه كان عبثيا، لكنه ضروري لتمرير موضوع عدم انتخاب الرئيس في الجلسة الأولى وترك الموضوع خاضعا للابتزاز السياسي!
عندما تحكم السياسة القضاء، يفقد الاثنان وظيفتهما، ويتحول الأمر إلى فوضى!
كاتب عراقي
نوري المالكي
أياد علاوي
المحكمة الاتحادية العليا
مجلس النواب