أي زلة يحتفظ بها الكيان الصهيوني ضد حكومات العالم الكبرى تجعلها صامتة هكذا تجاه الجرائم التي تعدت أطفال ونساء ورجال العرب غير المهمين على السلم البشري، إلى هؤلاء الأعلى درجة بشرية من مواطني العالم الغربي؟ ما الذي يجعل الحكومات الغربية صامتة حين تطال آلة الإبادة حتى «ناسهم» الذين تقدمهم هذه الحكومات على أنهم أهم «الأنواع البشرية»؟ صحيح أن الضحايا الغربيين قلائل في العدد مقارنة ببحر الأجساد الشرق أوسطية الغارقة في أمواج الدماء والأشلاء، ولكن لا يزال هؤلاء الغربيون يقتّلون، تنالهم آلة الوحشية السياسية العسكرية فيمن تنال، فكيف يا ترى تنظر لهم حكوماتهم؟ أشخاص خطأ في المكان الخطأ؟ أضرار جانبية لا مجال لتفاديها؟
دوماً ما تتصدر الأخبار تلك الحوادث لمقتل الأجانب الموجودين على الأراضي الفلسطينية المحتلة، لربما آخرها خبر مقتل أربعة أجانب في جنوب دير البلح من حملة الجنسيات البولندية والأسترالية والإيرلندية والبريطانية والتابعين لمنظمة المطبخ المركزي العالمي. تتصدر خلال اليومين الحاليين صور وفيديوهات هؤلاء الأبرياء وهم يقومون بعملهم في غزة، وهم يتواصلون بالضحكات والأحاديث الإنسانية، ثم وهم قتلى غارقون في دمائهم على إثر غارة إسرائيلية على المنطقة. هنا لنا أن نتساءل، بما أن حكومات العالم الكبرى «تصدق» وتردد مقولة إسرائيل أنها «لا تستهدف المدنيين»، كيف إذن يُصاب المدنيون الغربيون المقيمون والقائمون على أنشطتهم الإنسانية في غزة؟ ترى هل يُخفون هم كذلك أعضاء حركة حماس في أماكن إقامتهم أو في أقبيتها ما يستدعي قصفهم، أم أن قصفهم غلطة، و»مش ندمانين عليها» مع الاعتذار للفنان هاني شاكر؟
وسواء كان هذا القصف نتيجة ما يعرفه العالم أجمع من محاولة تصفية الغزاويين ولو كان على حساب «البشر الأعلى شأناً» من الغربيين الموجودين في غزة والذين لا بد عندها من اعتبارهم أضراراً جانبية ملزمة، أو نتاج ما يحاول البعض تصديقه، وبعد لا نعرف كيف يصدقون ذلك، من أنه استهداف لأعضاء حماس تحديداً والمنتشرين بعددهم الذي يقترب لربما من العشرين ألفاً فقط لا غير في كل بيت وشارع ومتجر ومستشفى ومدرسة ومسجد وكنيسة وجامعة ومعهد ومقر إغاثة وموقع منظمة ومبنى حكومي ومبنى ترفيهي، بل وعلى امتداد الشاطئ كله في غزة، سواء كان هذا القصف نتيجة الحقيقة الأولى أو الكذبة الثانية فالمحصلة واحدة: مقتل الأبرياء فقط، بالأغلبية العظمى من الأطفال، في حين أن الخسائر في صفوف المقاومة الحمساوية تكاد لا تُذكر. فلماذا يستمر هذا القتل الوحشي الممنهج؟ وإذا فهمنا سبب «تصديق» الحكومات العالمية لأسباب الاستمرار، فكيف نفهم التواطؤ الإعلامي الغربي ومحاولته المسكينة المستمرة لدس عذر 7 أكتوبر في حلوقنا لهذا القصف الذي تعدى حتى أبشع الخيالات في وحشيته رغم أنها قصة لا يمكن بأي حال من الأحوال بلعها؟
يبدو أن لا أحد له قيمة حقيقة في عالم اليوم المتوحش، ولا حتى هؤلاء المواطنون الغربيون الذين تتشدق حكوماتهم بقيمتهم الإنسانية وتعلي أمنهم فوق أمن العالم أجمع. لا أحد له قيمة فعلية أمام آلة المصالح، أمام الدولار القادم من النفط والسلاح، أمام غرف الاستخبارات المتوحشة التي نسميها بنوكاً، والتي بسببها ومن أجلها تنطلق أكثر الحروب وحشية في العالم، ومن أجل أوراقها البنكنوتية يقتل ملايين البشر بدم بارد.
لم أكن في يوم من المؤمنين بنظريات المؤامرة وبالماسونية العالمية وبقوى عظمى خفية تدير العالم أجمع عبر عدد محدود من «البشر الآلهة،» لكنني اليوم أراجع أفكاري وأنظر في سذاجتي وأسخر داخلياً مما كنت أتصوره عقلانية ومنطقية تفكيري. أي عقلانية في ما يحدث؟ أي تفسير منطقي، حتى ولو كانت منطلقاته أنانية مصلحية، يمكن أن يسند مخطط قتل جمعي للبشر هكذا، تفجيرهم وتجويعهم وإمراضهم وتشريدهم، وبإنهائهم بأسلوب بطيء تعذيبي كهذا مليء فوق عذاباته الجسدية بعذابات الإهانة، والتغريب والتخويف النفسيين؟ أي مصلحة للغرب في ذلك تجعل حتى مقتل بني جنسهم «المخملي» مقبولاً كأضرار جانبية؟
لا بد أن هناك «بشراً آلهة» على سطح هذه الأرض، قادرين فعلياً على إسكات أقوى حكومات العالم، على تمرير مقتل البعض من «الجنس المخملي»، وعلى الدفع باستمرار القتل العصابي للآلاف من «الجنس الأدنى» وتحديداً باستهداف أطفالهم، وذلك أمام العالم أجمع دون أن يطرف لمعتد جفن، ودون أن يجرؤ أحد، مجموعة، منظمة، حكومة، على اتخاذ إجراء حقيقي لإيقاف هذه المجزرة الجماعية. لا بد أن هناك «بشراً آلهة» على سطح هذه الأرض قادرين على قلب الموازين وتغيير النيات وإيقاف الضمائر وتحويل المشاعر، ليصبح أصدقاء الأمس أعداء اليوم، وليضع أهل المقتولين أياديهم في أيادي القتلة الغارقة في الدماء والأشلاء. لا بد أن هناك «بشراً آلهة» أمرت بتحويل مجلس العزاء الكبير المقام في معظمه لأطفال أبرياء الكثير منهم لم يصل حتى للخامسة من عمره، إلى عرس كبير يرقص فيه الجميع، أمراً لا فضلاً، على الأشلاء، يحتسون الدماء، ويأكلون العظام. لا بد أن هناك «بشراً آلهة» تأمر، وإلا لماذا ينفذ العالم بخنوع كهذا، القريب من الضحايا قبل البعيد؟