في كتابها «مفاوضات مع الموتى»، الذي ترجمته للعربية عزة مازن، وصدر عن المجلس القومي للترجمة في مصر، منذ فترة، واطلعت عليه مؤخرا، تحاول الكاتبة الكندية المخضرمة مارجريت أتوود، أن تجيب على أسئلة الكتابة والقراءة الممددة في أذهان الكتاب والقراء معا، وستظل ممدة دائما، بلا خيار آخر.
تقول أتوود في كتابها الغني بالأفكار والتجارب، وفي نفس الوقت بالنظريات التي غالبا ما تكون وليدة حماس للتنظير، موجود عند معظم من كتبوا إبداعا، منذ عرفت الكتابة، إنها كتبت في زمن لم يكن فيه متع كثيرة كما يحدث اليوم، لم يكن ثمة سينما منتشرة، ولا تلفزيون يقتحم عزلة البيوت، ولا حتى رغبات مستعرة للتسوق مثلا، كما يحدث اليوم. وبالتالي كانت هناك فرص جيدة للأفكار الكتابية أن تتلاطم في الأذهان وتخرج، وأيضا احتمالات كبيرة أن يكون ثمة متلقين لهذه الكتابة، أي قراء، يمتعون أنفسهم بالمتعة الوحيدة التي تتوفر بكثرة في ذلك الزمان. وبالرغم من قلة دور النشر في خمسينيات القرن الماضي، في بلادها، وعدم اعترافها بالكاتب المحلي وما ينتجه، إلا أن الأمور كانت تسير بخطى لا بأس بها، وحين تغير الزمن وجاءت الطفرات الكبيرة في كل شيء، كان يوجد كتاب مؤسسون، وكتاب واعدون، وكتاب سيولدون لا محالة، وأيضا يوجد جميع أنواع القراء المواكبين لتطور الكتابة. في الماضي، كانوا يتحدثون عن الفن، والكتابة من أجل الفن، وكان على الشعراء أن يموتوا أو يتسولوا الطعام، من أجل الفن، والآن كل صاحب موهبة، يملك بالضرورة، نصيبا قويا من حكاية الكتابة، واستثماراتها، وربما يكون نجما في المجتمع، تحاكي وقفته ونظرات عينيه، وقفة ونظرات عيني نجم سينمائي.
أيضا وفي فصول أفردتها للقارئ وحده، وما يمكن أن يقدمه للكاتب من نفع أو ضرر، وصفت عملية القراءة بالتلصص، وأن قارئك هو جاسوس اجتماعي لمعرفة دواخلك من خلال قراءة ما تكتبه، لأن الكاتب حين يكتب، فهو يضع شيئا منه في النص، حتى لو لم يكن ذلك صراحة، وبالتالي يتم نهب ذلك الشيء الغامض من قبل القراء المحترفين.
نعم هناك قراء يمرون على الرواية سريعا، يبحثون عن شيء يريدونه، مثل فتاة حسناء تتعرى في الصفحات، أو بطل خرافي يسدد لكمة لخصم، أو طفل صغير شقي سينجو من حادث سير، ويصفقون له. هكذا، لكن هناك آخرون في المقابل، يتشبثون بصفحات الكتاب لدرجة أن تصبح جزءا من تكوينهم، وهؤلاء هم خصوم الكاتب غير الضارين كثيرا، لكنهم ربما يضرون من دون قصد، حين يسترون بعض العورات المكشوفة عن قصد من الكاتب، أو يصححون الأخطاء التاريخية التي صيغت سهوا، أو يفسدون على الكاتب متعة الكآبة والعزلة، حين يقيمون أمسية نقدية، يقلبون فيها المواجع.
لقد ذكرني كلام أتوود عن الترفيه، واعتماد القراءة من ضمن أدواته في زمن ما، بأوائل السبعينيات من القرن الماضي، حين كنا نجتمع نحن صغار الحي، في أحد البيوت، ليقرأ علينا العم حمزة، وهو رجل مسن، ومثقف، ويعمل بائعا في كشك صغير أمام المستشفى، ويقيم مع إحدى الأسر بالجوار، يقرأ من كتب كان يرصها تحت سريره، وكانت في معظمها تأسيسا فريدا لذهنية القراءة، لدى الأطفال. إنها كتب في المغامرات والألغاز، وبطولات بعض الشخصيات التاريخية، مثل صلاح الدين، وأيضا شيء من السيرة الهلالية، وغيرها من الروايات الخفيفة الخالية من المواضيع المعقدة. وأذكر أن قناة حمزة الترفيهية هذه كما أسميتها، استمرت سنوات، حتى أصبح بإمكاننا القراءة من دون مساعدة، والبحث عن الكتب التي نريدها في المكتبات التي كانت موجودة بالمدينة في ذلك الوقت.
لقد وصفت مارجريت أتوود، فعل القراءة كترفيه، يؤدي في الغالب إلى الإدمان، في بلادها كندا، في زمن خصب من أزمنة الفن، وكان ما وصفته موجودا عندنا، وربما في معظم دول العالم قبل غزو التكنولوجيا.
أسئلة الكتابة قائمة ما تزال: لماذا نكتب؟ لمن نكتب؟ هل هناك جدوى من الكتابة؟
تقول أتوود عن ذلك، إن هذه الأسئلة لم تعد تؤرق الكاتب الذي تولد موهبته في هذه الأيام، لأن مسألة الفن من أجل الفن، قد فقدت بريقها، وربما تكون تلاشت تماما، لأن من السهولة جدا أن يحصل كاتب حديث على مبلغ من ستة أصفار، دفعة أولى، ذلك الرقم الذي يقضي فورا على أي سؤال خاص بالكتابة، قد يدور في ذهنه. وسؤال: لمن نكتب، أيضا لا لزوم له، لأن شرائح القراء، تعددت، ولأن هناك جوائز سخية تقدم، وسينما تنتج ما يكتب، وأسفار بلا حصر ومحاضرات هنا وهناك، وهكذا، الكاتب يكتب ليعيش شامخا، وليلمع وليصبح جزءا من رقي المجتمع، وليجلس في صالات رائعة، معطرة، يوقع الكتب، ويتلقى نظرات المعجبين، ومصافحاتهم، وغالبا ما يجده المعجبون كما تخيلوه تماما: أنيقا وجذابا، بعكس تخيلات الماضي عن الكاتب، حين تخيب تماما عند رؤيته، ذلك أنه دائما عكس التوقعات، وأفقر من أن يلفت حضوره أحد.
هذه اللمحات عن بلاد تحضرت منذ عهد، وتجاوزت صيغة الماضي التي ما تزال سائدة عندنا، هنا، أعني في البلاد العربية، والكل يعرف، أن الكاتب لا أحد في معظم حالاته، ولو كتب بأدوات الجن، هو كاتب فقط من دون إضافات شيقة، وربما يستهزئ منه البعض في صفحات الجرائد، أو يضعون له السدود في أول درجة من درجات النجاح، يصل إليها، وربما يغتالونه معنويا بتضفير المعاناة، وردمها في حياته.
لذلك، نحن بعيدون عن محاضرات مارجريت أتوود المختصة بالكتابة، ربما نكون قريبين من الماضي الــــذي ذكرته، لكننا لا نشبه الحاضر ولا المستقبل المرصود عندها، وإن كان لا بد من تنظير، فليكن تنظير يخصنا وحدنا.
كاتب سوداني
أمير تاج السر