نيويورك – «القدس العربي»: قد تكون المرة الأولى التي يلتقي فيها كبار القوم في أوروبا وبعض الممثلين الدوليين في بروكسل الخميس الماضي لبحث مأساة المهاجرين الذين يبتلعهم البحر. المأساة أكبر من أن يدفن الناس رؤوسهم في الرمل ويدعون أن البحر رفيق لنا وأن المتوسط مهد الحضارات فحسب. المتوسط أصبح مقبرة الفقراء الجديدة، فكلما بلع حفنة منهم صاح «هل من مزيد؟». الأحد الماضي أقلعت سفينة صدئة من شواطئ ليبيا التي لا يبسط أحد عليها أي نوع من السيادة. المهربون وأقطاب الجريمة المنظمة حشوا جيوبهم بملاليم الفقراء الحالمين بحياة بسيطة تؤمن لهم الخبز والماء النظيف وسقفا يقي الأطفال بعد الوصول إلى شواطئ أوروبا الجميلة التي لا ترتاح لمناظر هؤلاء الأفارقة والعرب الذين يفرضون أنفسهم عليها بالقوة. «إبقوا في بلادكم أيها الفقراء وسنرسل لكم أكياسا من طحين ولا تعكروا علينا صفاء الجو وزرقة البحر وجمال الأجسام الممدة على الشواطئ عارية أو شبه عارية». دخلت السفينة عباب البحرمحملة بأكثر من ثمانمئة مهاجر حالم. الوالد يحدث إبنه عن جمال أوروبا والزوجة تتمنى على زوجها أن يؤمن لها بيتا صغيرا تربي فيه العيال والشاب أكد لخطيبته قبل الرحيل أن المستقبل سيكون مشرقا في إيطاليا بعد الوصول الآمن. لم تمخر السفينة بعيدا في البحر. تحمل ضعف طاقتها. بدأت تترنح. حركتها أصبحت بطيئة. دب الذعر في القوم. كانوا محبوسين داخل كابيناتهم الصغيرة. دقوا على الأبواب. صرخوا لكن أحدا لم يسمع الصراخ الذي وصل السموات السبع. الموت آت يا رفيق. لماذا لم نمت في بلادنا؟ على الأقل نجد من يدفننا. السمك سيحتفل الليلة بنهش لحمنا عن عظمنا. إطلبوا من يسوع أن يظهر ويحملنا على كفه إلى بر الأمان. سفينة بعيدة تبدو في الأفق. تتجه نحونا لعلها تنقذ من تستطيع. لكنها وصلت متأخرة. إنقلب القارب واستقر في الأعماق وفي بطنه 722 مسكينا ويتميا وابن سبيل ومشرد. سفينة الإنقاذ إستطاعت بعد لأيٍ أن تنقذ 28 شخصا فقط من مالي وغامبيا وساحل العاج وسيراليون وارتريا والسنغال وتونس وبنغلاديش. من بينهم القبطان التونسي محمد علي مالك (27 سنة) ومساعده السوري محمود البخيت (25 سنة) اللذان إعتقلا بعد إنقاذهما وتحويلهما إلى صقلية وتوجيه تهمة القتل لهما. قال أحد طاقم الإنقاذ «كان سطح البحر عبارة عن مقبرة عائمة». وأكد آخر أن قسما من المهاجرين كان خلف أبواب موصدة. وأكد أحد الناجين أن نحو 1,200 شخص كانوا محشورين في مزرعة قرب طرابلس يحرسهم رجال مسلحون ويهينونهم ويضربونهم. كان المهربون يرشون الضباط والشرطة الليبية إلى أن جاءت ساعة الرحيل ليلا حيث نقلوا في قوارب مطاطية إلى سفينة الموت البعيدة قليلا عن شاطئ البحر.
أصبح الفقراء الهاربون من وطن ظالم وليمة لأعشاب البحر(على رأي حيدر حيدر). البحر يبلع الفقراء. قبل أيام خمسة فقط بلع البحر 400 جنوب مالطا وقبل الحادث بيومين أضاف خمسين آخرين. ليصل العدد منذ بداية العام إلى 1727. منظمة الهجرة الدولية تعتقد أن عام 2015 سيتفوق على 2014 الذي شهد غرق 3279 مهاجرا.
الفقراء لا مكان لهم في الدنيا، لا أحد يبكي عليهم. هم أرقام فقط. يرتفع العدد أو لا يرتفع لا يهم. تصدر بيانات باردة من مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان والمنظمات الدولية الأخرى تقدم العزاء لذويهم وكأن أحدا يعرف إن كان لهم أقارب يستقبلون العزاء. البابا فرنسيس صاح في صلاته يوم الأحد أن «أوقفوا هذه المآسي أيها المجتمع الدولي».
إلتقى كبار القوم في بروكسل يوم الخميس الماضي وناقشوا المشكلة من كافة جوانبها ووضعوا خطة على الورق كي لا تتكرر المأساة ثانية. وللننتظر يوما أو أسبوعا لنسمع عن مأساة جديدة للفارين من جحيم بلادهم إلى الحلم البعيد فيعترضهم الموت بطريقة فجة لا تعطيهم فرصة للبكاء. وسيعود الأغنياء للاجتماع ويتعهدون بعمل شيء ما كي لا تتكرر المأساة لكنها تعود لتطل من جديد دون أن تظهر «عنقاء الرماد من الدمار».
الخطة تتكون من عشر نقاط. من بينها تعزيز أمن الشواطئ وتدمير سفن التهريب الراسية في الموانئ المهجورة ومراقبة أوسع للعابرين وتخصيص طائرتي إستطلاع ومروحيتين وستة قوارب خفر سواحل و 65 ضابط بحرية ورفع الميزانية المخصصة لعمليات الحماية من 3 مليون يورو إلى نحو 10 ملايين وتخصيص 5,000 مكان في ملاجئ إستقبال المهاجرين. بالله عليكم هل هذه خطة جادة؟ ولنسمع رد منظمة العفو الدولية: «إن هذه الاستجابة غير كافية ومخجلة وتستحق الرثاء». السيدة الحديدية أنغيلا ميركل قالت لدى وصولها أمام عدسات الكاميرا «الأولية الآن لإنقاذ الأرواح واتخاذ الخطوات السليمة للقيام بذلك». لنرَ كيف سيتم إنقاذ الأرواح.
كم صغير هذا البحر
البحر المتوسط من منظور التكنولوجيا الحديثة بؤرة صغيرة، لا يزيد عن مساحة الجزائر إلا قليلا. تستطيع الأقمار الصناعية مراقبة كل شاطئ وجزيرة وسفينة صيد وناقلات بترول وسفن شراعية وحتى سمك الدولفين وهو يلاحق السفن السياحية. وتستطيع الدول الصناعية الكبرى أن تلتقط الإشارات السلكية والمخابرات الهاتفية والرسائل النصية ونداءات الاستغاثة اليائسة. وتستطيع الأساطيل البحرية وقوات الناتو والسفن العسكرية والغواصات وطائرات الأواكس وطائرات التجسس والدرونز المخصصة للقتل أن تراقب هذا البحر الصغير وتلتقط كل حركة غير طبيعية وأن تكون جاهزة للإنقاذ على وجه السرعة خاصة وأن معظم السفن تنطلق من السواحل الجنوبية في جزئها الشرقي بين ليبيا ومصر وبنسة أقل من المغرب وبعض الدول الأفريقية. لا أحد يقنعنا أن هذه الدول لا تستطيع إنتشال الضحايا أو منع تلك السفن التالفة من عبور البحر.
قام نحو 200 شخصية أوروبية ودولية رفيعة المستوى من بينهم رؤساء وزراء سابقون ونشطاء حقوقيون بالتوقيع على وثيقة مهمة وضعوها برسم إجتماع بروكسل للضغط على ضمائر المسؤولين الحكوميين. قالوا لهم إن هؤلاء الضحايا وصمة عار على ضمائرنا جميعا وطالبوا بسياسة شاملة وجادة تعتمد على توسيع نطاق المراقبة والتفتيش وتجفيف مصادر التهريب وملاحقة المهربين وتوسيع منظومات إستقبال المهاجرين وإعتماد نظام المحاصصة بين الدول في إستقبالهم وإشراك مفوضية اللاجئين في الحلول وتضخيم الميزانيات المخصصة لمسألة الهجرة وغير ذلك من الإجراءات الإستثنائية.
القانون الدولي الغامض
المشكلة أن القانون الدولي في مسألة الهجرة غير الشرعية غامض. كل ما لدينا هو «المعاهدة الدولية لحماية جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم» والتي تم اعتمادها في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 18 كانون الاول/ديسمبر 1990 ولم تدخل حيز التنفيذ إلا في تموز/يوليو 2003 بعد أن وصل عدد التصديقات عليها 20 دولة لأن الاتفاقية لا تتمتع بالتأييد وخاصة في أوروبا، ولم يصل عدد الدول المصدقة عليها لغاية 2014 إلا 47 دولة فقط. ولا يستغربن أحد إذا علم أن أيا من الدول الأوروبية المهمة المتشدقة دوما بحقوق الإنسان لم يصدق على الاتفاقية بما فيها إيطاليا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا، وللعلم أيضا فإن كثيرا من الدول المصدقة على المعاهدة هي من الدول المصدرة (وتسمى الطاردة أيضا) للمهاجرين مثل المكسيك والمغرب وليبيا ومصر وسوريا والجزائر والعديد من الدول الأفريقية والآسيوية واللاتينية. كذلك لم توقع على الاتفاقية أو تصدق عليها أي من دول مجلس التعاون الخليجي لما يفتح ذلك من شهية المنظمات الإنسانية لمراقبة أوضاع العمال المنتشرين بمئات الألوف في هذه الدول. الحجة التي ترددها الدول الأوروبية أن قوانينها المحلية تعالج مسألة المهاجرين دون حاجة لاتفاقيات دولية. وهذه حجة مردودة لأنها لا تثار في معاهدات أخرى كمعاهدة حقوق الطفل والسكان الأصليين وعدم التمييز وحقوق المرأة وغيرها الكثير. بل إن السبب الحقيقي هو أن هذه المعاهدة تفرض مجموعة من المسؤوليات الخلقية والإنسانية والمالية والاقتصادية في التعامل مع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم. وهناك سبب آخر وهو أن تحسين قوانين الهجرة وتأمين حقوق العمال المهاجرين في بلد ما سيثير شهية أعداد أكبر من المهاجرين وسيصبح ذلك البلد الجهة المفضلة للمهربين والمهاجرين غير الشرعيين.
لقد بلغ عدد العمال المهاجرين عام 2005 نحو 190 مليونا بما يعادل عدد سكان البرازيل. ولا تكاد دولة في العالم تكون خارج شمولية المعاهدة إستقبالا أو تصديرا للمهاجرين. والهدف الأسمى للمعاهدة هو حماية حقوق العمال المهاجرين وإحترام حقوق الإنسان لهم ولعائلاتهم ومعاملتهم بطريقة إنسانية تحفظ حقوقهم وكرامتهم. وتحدد المعاهدة مجموعة معايير أخلاقية وإنسانية يجب إتباعها في معاملة العمال المهاجرين كما تعتبر دليلا إرشاديا للدول حتى غير المنضمة لها يمكن إتباعه في معاملة المهاجرين وأسرهم بطريقة تحفظ حقوقهم وتفتح لهم المجال واسعا للإنتاج والإبداع.
تهريب المهاجرين مسألة ممنوعة في القانون الدولي لكن الإشكالية أن الكثير من هذه الجرائم ترتكب في المياه الدولية وبالتالي تضيع الأمور في تحديد الجهة المسؤولة عن محاكمة المهربين خاصة إذا كانوا خارج بلادهم. وكي تتم محاكمتهم لا بد من إعتقالهم أولا ثم توجيه تهمة محددة بحقهم كما فعلت إيطاليا مع القبطان التونسي ومساعده السوري. وفي العديد من الحالات يتملص المهربون من المسؤولية لأنهم يتمكنون من الهرب في قوارب النجاة قبل الغرق أو لا يكونون أصلا في المراكب المثقلة بحمولتها بعد تأمين الإقلاع. وهؤلاء المهربون عادة يعملون مع أفراد من الأمن والمخابرات في بلادهم لتأمين الحماية من أي مساءلة قانونية مقابل تقاسم الغنائم معهم أو مع العصابات الإجرامية المنظمة التي تؤمن لهم الحماية.
حتى مسؤولية التحقيق في المراكب الغارقة غير محددة. من يقوم بها؟ دول الإستقبال أو دول المصدر أو المنظمات الدولية العديدة كالمنظمة الدولية للهجرة أو مفوضية حقوق الإنسان أو مفوضة اللاجئين؟ لا أحد يعرف وتضيع الأمور وتسجل هذه الجرائم فقط في سجلات المهاجرين الغرقى دون متابعة أو مساءلة أو محاكمة.
وأخيرا، إن هذه المشكلة الحقيقية التي تفاقمت في السنوات العشر الأخيرة بعدما أقفلت أوروبا حدودها وانهارت إقتصاديات عدد من الدول الأفريقية والعربية والآسيوية تحتاج إلى وقفة دولية جدية تعالج أسباب المشكلة وذيولها عن طريق المزاوجة بين قوانين تتعلق بالمصدر وتجفيف المنابع كما تتعلق بالمصب وأنسنة القوانين، وفي الوقت نفسه ملاحقة العصابات المنظمة التي تغرر سنويا بآلاف الشباب اليائس والذي إذا عجز عن تأمين عمل شريف في بلده يختار أحد طريقين: عبور البحر في مغامرة غير مضمونة أو الإنضمام إلى التنظيمات التكفيرية التي تؤمن له الخبز والجنس والبندقية ووعدا بدخول الجنة حيث تنتظره الحور العين.
نقول هذا بحرقة وألم لعل أحدا من العرب يتحرك بهذا الاتجاه وينضم إلى جهود المجتمع المدني في أوروبا الضاغط باتجاه العمل الجاد لعل مركبا محملا بالحالمين من الشباب يوقف قبل أن يمخر عباب البحر نحو موت شبه مؤكد كما يقول المغني الجزائري الكبير رابح درياسة في بكائية على الشباب المهاجر: «بابور يطلع ويهوّد يتعلم بالعوم – ودى شبان بلادي للوعد المحتوم».
عبد الحميد صيام
* مأساة هؤلاء اللاجئين البائسين تدمي القلب .
* بلدانهم فقدت الشرعية وأصبحت دولا ( فاشلة ) وهم للأسف
غير مرحب بهم في ( أوروبا ) ؟؟؟
* أيها المشردون في الصحاري والجبال والبحار لكم الله وأعانكم الله.
شكرا