صنعاء – “القدس العربي”:
بالتأكيد أن معظم اليمنيين متماهون تمامًا مع الجرح الفلسطيني، ويؤكدون التزامًا (لا مواربة فيه) مع الفعل المقاوم؛ لكن في الوقت ذاته هناك مَن يعلنها صراحة محملاً فصائل المقاومة مسؤولية النزف الفلسطيني، فيما يلجأ آخرون للظهور بمواقف أقل هدوءًا، لكنها تقول الكثير بواقعيتها الحادة؛ فهي وإن كانت تمسك العصا من الطرف لا تلوح بالانحياز، وانما تطالب بالاستعداد لنقد وجلد الذات العربية “حتى ندرك حجم خيبتنا وكارثتنا”، قبل أن نلوم الآخر.
على صعيد الهجمات الإيرانية، فجر الأحد، على إسرائيل ردًا على استهداف الأخيرة القنصلية الإيرانية في دمشق؛ اختلفت ردود الفعل اليمنية؛ ففي كثير منها بدت مبتهجة، وهنا يختلف فحوى الخلفية التي تُسند هذه البهجة؛ فمَن يعتبرها أسقطت الخطوط الحُمر في ردع إسرائيل؛ في ظل ما احدثته الصورة الذهنية التي صنعها الإعلام في العقود الماضية، فيما هناك مَن ابتهج التزامًا منه بالتصفيق لكل ما له علاقة بتيار المقاومة، وثمة مَن ابتهج تضامنًا صريحًا مع الحق الفلسطيني كحق عربي أصيل. وهناك من انطلق من رفضه للرد الإيراني من نقمته لما يعتبره دعم إيران لحركة “أنصار الله” (الحوثيون) في اليمن، محملاً إيران مسؤولية ما ذهب إليه اليمن وبعض دول المنطقة في أتون حروب؛ وفي السياق ذاته هناك من قلل من شأن الرد وسخر منه… وبين كل ذلك هناك مَن حرص أن يصدر موقفًا أكثر واقعية موجها نقدا قاسيا للذات العربية في انكشافها اللامحدود على الخذلان.
عمل مشروع
من المواقف اليمنية المؤيدة للرد الإيراني أصدرت وزارة الخارجية في حكومة حركة “أنصار اللهّ” (الحوثيون) بياناً اعتبرت فيه الهجمات الإيرانية شرعية وتتفق مع القانون الدولي وتندرج في سياق الحق في الدفاع عن النفس.
فيما كتب الناطق الرسمي باسم الحركة، محمد عبد السلام، على منصة إكس معتبرا “ما قامت به إيران ضد كيان العدو الصهيوني عملا مشروعا ردًا على ارتكابه جريمة القنصلية بدمشق، وأن كيان العدو لن يستطيع أن يفلت من جرائمه دون عقاب”.
هناك مواقف يمنية من خارج الحركة التزمت ذات المربع مع بعض الخصوصية؛ فهذا الناشط في منظمات المجتمع المدني، عبد الحكيم العفيري يقول: “الجسارة كانت بترك مدة فوق كافية للاستعداد أيضًا بتعاون عشر دول عظمى، وكم دولة تافهة، ومع ذلك وصل الإيرانيون إلى سمع وبصر وعقل وقلب كل صهيوني داخل وخارج فلسطين المحتلة. والأهم هو كسر ناموس الكيان واعتباره..”.
السياسي عبد الله سلام الحكيمي، قرأ الرد الإيراني من زاوية أن ايران أثبتت (بذلك) أنها قوة إقليمية، وحققت مكاسب سياسية، وعززت صورتها المحترمة، حد تعبيره.
وقال: “في إطار حسابات دقيقة، داخلية وإقليمية ودولية، سياسية وعسكرية واستراتيجية، نفذت إيران عملية عسكرية ضد الكيان الإسرائيلي، رغم مساندة قوى إقليمية وعالمية حليفة له في مواجهة الرد الايراني، ردًا على استهداف قنصليتها في دمشق، وكان الرد الإيراني دقيقًا وهادفًا بما حقق له إثبات حقه في الرد من ناحية، وتحاشي إعطاء الذريعة لدفع المنطقة والعالم إلى مواجهة شاملة يسعى الكيان الإسرائيلي بكل جهده إلى إشعالها مخرجًا لأزمة كيانه الداخلية، وعجزه عن تحقيق أهدافه المعلنة لحرب الإبادة الجماعية الوحشية التي يشنها ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة”.
وأضاف: “لقد اثبتت إيران مجددًا أنها قوة إقليمية رئيسية مسؤولة وحريصة على استتباب السلام والأمن الدوليين، وإطفاء نيران الحروب التي يشعلها الكيان الإسرائيلي والقوى الإمبريالية الداعمة له في إقليمنا الملتهب، ولا شك أنها حققت بذلك مكاسب سياسية، وعززت صورتها المحترمة والموثوق بها عالميًا، ومع احترامنا لكل وجهات النظر المخالفة لوجهة نظرنا هذه، فإنه لا شأن لنا هنا في التهاتر مع الذين لهم موقف عدائي مسبق من إيران أو الذين يتعاملون مع الحروب والسياسة بعقلية مشجعي فرق كرة القدم!”.
مجرد مسرحيات
في جهة المنتقدين والساخرين من الرد الإيراني رأى أصحابها أن “ما حصل ويحصل مجرد مسرحيات”، “ولم تحدث تأثيرا يذكر على أرض الواقع”.
وقالت الكاتبة هدى العطاس ساخرة من الهجوم الإيراني: “انتهت المسرحية الإيرانية بضحك الجمهور. لكن الأسوأ من تمثيلية النظام الإيراني: خذلان وجبن وصمت وتقهقر الأنظمة العربية الذليلة عن نصرة غزة. أنظمة فاشلة حتى في التمثيل”.
الشاعر حسين مقبل، هو الآخر اعتبرها مسرحية، وقال في منشور على فيسبوك: “حقيقة أريد إيران (أن) تكون جادة في عدائها للكيان، وتدخل حربا حقيقية معه ونخلص منهم كلهم، لكن للأسف لا يوجد أي عداء، وكل ما حصل ويحصل وسيحصل مجرد مسرحيات هزلية لمخرج فاشل”.
إسرائيل المستفيدة
إلى ذلك، هناك من قدّم قراءات لضعف التأثير العسكري للرد. وقال رئيس مركز أبعاد للدراسات، عبد السلام محمد، إن إسرائيل هي المستفيدة من الهجوم الإيراني الذي قلل من قيمته ووصفه بالمسرحية.
وقال في قراءته للحدث:” بضعة صواريخ بالستية وصلت صحراء النقب، لا تأثير عسكري كبير، لكن إيران حققت هدفها برد الاعتبار، بينما إسرائيل ستستفيد من هذه الضربة في إعادة اللحمة الداخلية، وإسكات المعارضة، وتسويق مظلوميتها مجددًا للغرب لإعادة تصدير السلاح وإبقاء الدعم”.
وأضاف: “الخطورة في ضربة إيران المعلنة، والتي صاحبتها دعاية إعلامية أكبر من حجم تأثير الضربات؛ هو أن إيران الخُميني هي الدولة الثانية بعد عراق صدام تهاجم إسرائيل بالصواريخ منذ انتهاء الحرب العربية الاسرائيلية في سبعينات القرن المنصرم، ما يشكل ذريعة لإسرائيل وحلفائها مهاجمة إيران في أي وقت”.
وكتب في منشور آخر أن نتائج ما اعتبرها “مسرحية الحرب الإيرانية الإسرائيلية، كالتالي: 1- إغلاق ملف حرب غزة بنهاية تظهر إسرائيل ضحية ومستهدفة. 2-ستقول أمريكا للعرب لا بد من الحوار والتفاهم مع إسرائيل لخفض التصعيد، ما يعني غض الطرف عن تمدد إيران في المنطقة. 3- اتفاق ترعاه واشنطن لتقاسم النفوذ في المنطقة بين إسرائيل وإيران”.
تهشيم الصورة
فيما كتب المحلل السياسي، ياسين التميمي، قراءة أخرى قللت من شأن الحدث، وبخاصة على صعيد القوة التدميرية التي قال إنها لم تكن بمستوى ما تحققه صواريخ فصائل المقاومة الفلسطينية، لكنه في ذات الوقت اعتبر الحدث من الناحية المعنوية ساهم في تهشيم صورة الكيان الصهيوني. وقال: “لم أكن مخطئًا على ما يبدو عندما فضلت عدم الانتظار حتى تصل الطائرات المسيرة الإيرانية إلى أهدافها، ومتابعة نتائج الهجوم الإيراني على الكيان الصهيوني”.
“الأثر العسكري شبه معدوم، لكنه من الناحية المعنوية ساهم في تهشيم صورة الكيان الصهيوني باعتباره كياناً يفقد شيئًا فشيئا قدرته الخارقة وحصانته الدعائية ضد الأسلحة المعادية، علمًا بأن الصواريخ الإيرانية لم تحدث الأثر التدميري نفسه لصواريخ المقاومة الفلسطينية في معركة الطوفان والمعارك التي سبقتها”.
وأضاف: “اختارت إيران منطقة النقب، وهي صحراء فيها قواعد عسكرية محصنة، لكنها بعيدة عن التجمعات السكانية بما لا يتكافأ مع الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف منشأة دبلوماسية في قلب العاصمة السورية دمشق. على مسار الصواريخ والطائرات المسيرة الذي تطابق تماماً مع خط الإمداد الإيراني لنظام بشار الأسد وحزب الله نشط سلاح الجو الأمريكي والبريطاني وأسلحة جوية أخرى في المنطقة، وتم تدمير العشرات من الطائرات المسيرة قبل وصولها الى أهدافها”.
الكاتب محمد جُميح قلل من شأن تأثير الضربات الإيرانية مقارنة بما حققته وتحققه المقاومة الفلسطينية، وقال: “بإمكانات بسيطة صُنعت في ورش عادية، وبهجوم مباغت ألحقت المقاومة الفلسطينية أضراراً بشرية ومادية ومعنوية لم تعهدها إسرائيل على مدار تاريخ الاحتلال. وبهجوم دعائي، تم الإبلاغ عنه مسبقاً، وغطى ضجيجه الإعلامي على دويّ صواريخه لم تصب إيران إسرائيلياً واحداً بخدش. فرق بين المقاومة والمقاولة”.
الانكشاف العربي
بين المؤيدين والناقمين والمنتقدين والساخرين من الرد الإيراني هناك مَن حاول تقديم قراءة قد يعتبرها البعض واقعية كثيرًا، وبخاصة في علاقة ذلك بالواقع العربي الذي يحتاج إلى نقد ذاتي قاس أكثر من توجيه اللوم على إيران.
واعتبر سامي غالب، رئيس تحرير صحيفة النداء، الرد الإيراني قد اجتاز خطوطًا حُمر في المنطقة، ويرى أن الهجوم الإيراني يدلل على ما اسماها “فداحة الانكشاف العربي”، منتقدًا ما يقوم به بعض الكتاب والإعلاميين العرب بين نقد سياسة إيران، وهي تستحق النقد الشديد، وبين خدمة إسرائيل، حد قوله.
وقال غالب: إيران أظهرت ردها على قصف قنصليتها في دمشق، وهو أمر متوقع. وسأل: كيف ستتصرف إسرائيل؟
وأضاف: “في انتظار ذلك فإن المؤكد مما وقع حتى الآن أن التصعيد الإيراني يعني أن خطوطا حمراء في المنطقة تم اجتيازها! واشنطن تتحدث عن النجاح في صد الهجوم الإيراني بالتعاون مع الحلفاء! لم تعين هؤلاء “الحلفاء”، لكن الأكيد أن القصد يتجه إلى حلفاء غربيين وجيران إسرائيل. وهو تلخيص لما جرى في المنطقة عقب حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وبخاصة في مطلع التسعينات عبر تدمير العراق قبل احتلاله في 2003.
“الهجوم الإيراني يدلل على فداحة “الانكشاف” العربي إلى الحد الذي بات معه عدد كبير من الكتاب والإعلاميين العرب في وضع بائس وقد أصابهم الدوار، وفقدوا الحس السليم حتى إن أعينهم لا تتوقف عند العوازل الرقيقة بين نقد سياسات إيران- وهي تستحق النقد الشديد- وبين خدمة إسرائيل!”.