شاهِدْ لحظة تلقي إسماعيل هنية نبأ استشهاد أبنائه الثلاثة وبعض أحفاده… فيديو لن يحصل فقط على ملايين المشاهدات، وإنما سيثير أيضاً نقاشات وتعليقات لا حصر لها، بين من يصف المشهد بالمفبرك، حيث اجتمعت، بمعجزة، كاميرا مفتوحة، وسبيكر مفتوح، ليتلقّى هنية النبأ على الملأ، بصبر قياديٍّ «تدرّبَ» على المشهد مرات لا حصر لها.
ما من محب لا تمرّ برأسه صورة يتخيّل فيها لحظة فَقْدِ عزيز، وقد يبكي، ويمشي في جنازةٍ متخيلة، ويتلقى التعازي، ويبكي على كتف معزّين أعزاء، ويضع ورداً على القبر، وقد يعدّ سلفاً عبارة فاتنة خالدة يكتبها للشاهدة، إن لم ينحت الشاهدة أيضاً. كانت مخيلة كهذه وراء قصيدة محمود درويش «إلى أمي»، التي تَصوّرَ فيها موته مبكراً جداً، ورأى دموع أمه، فقرّر أنه يريد الحياة ويعشقها، فقط كرمى لعيني أمه.
بالإمكان إذن أن يتخيل المرء حتى جنازته، يكون فيها هو الميت والناعي والمعزّي، وغاسل الموتى، وحفار القبور، ومُطلاً على جنازته من فوق.
لمتابعي حرب غزة تجربة سابقة مع الصحافي وائل الدحدوح، الذي فَقَدَ جلّ أفراد عائلته تباعاً، وتلقى أنباء استشهادهم على الهواء مباشرة مع المشاهدين، وكان جبلاً، وأيقونة، وبطلاً، وجباراً،… إلى سلسلة من الأوصاف التي أطلقها عليه معجبون كثر بصبره وبطولته، ولأن الدحدوح موجود معنا على الدوام، 24 ساعة على 24، على الهواء مباشرة، فلم يكن من الممكن ألّا نلمح، في لحظة، ارتعاشة صوته، ورجفة شفتيه، مهما قال «معليش»، ومهما مسّدَ على رؤوس أحبابه الناجين محاولاً شدّ أزرهم.
كل ذلك ما هو إلا نوع من التدريب المبكر والمستمر على الفقد، يحدث عند أقل الناس شأناً، ويجابهونه كلٌّ على طريقته. فكيف يتصرف قيادي كإسماعيل هنية، وُلد ونشأ في بلاد منذورة برمتها للشهادة والغياب، و»صدف» أنه يقود حركته في ظرف هو الأخطر في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ويعيش على الأقل، يوماً بيوم، ساعة بساعة، تفاصيل الإبادة الجماعية في غزة، ومن البديهي أن يدور في خلده، مع كل هاتف يرن، خاطرُ خبر مفجع وحزين. وقد كشف الحدث بالفعل أن حوالى ستّين من أفراد عائلته قضوا شهداء في هذه الحرب.
هناك معطيات إذن تحتّم على هنية أن يستقبل النبأ بهذا الصبر والتجلد، وبهذه السهولة، ما يبدو أنه سهولة، يسمع النبأ، فيتابع ما كان فيه، ثم نراه في فيديوهات أخرى مستقبلاً تعازي الأحبة والرؤساء على الهواء. إلى حدّ أن هناك من يبدي خشيته ممن يحمل قلباً قاسياً إلى هذا الحدّ.
لكن لماذا نذهب بعيداً، فقد تداول سكان الميديا أيضاً فيديو لزوجة أحد أبناء هنية، وقد فقدت زوجها وأطفالها، ترثيهم بخطبة صابرة، من غير دموع صريحة.
ما من شك، أن هناك إسماعيل هنية آخر خلف المشاهد المتداولة في الإعلام الرسمي، أو في الميديا الاجتماعية، رغم أن هذا العدد الكبير والمهم من المعزّين سيشدّ من أزره بالطبع، وكذلك سيفعل إيمانه.
بعيداً عن ضجة العزاء، هناك لحظة سيخلو الأب فيها إلى نفسه، مهما شوّشها، أو أزاحها عن وجهه، ستأتي أصواتهم، أصوات الذين غابوا للتوّ، طازجة، حية، ضاجة بالحياة. عندها سنقول حقاً: اللهم صبّر قلب الأب.
مرّ في حياتنا ثاكلون كثر، كنا نراهم باسمين في الجنازات، وهم الذين كانوا يربتون على أكتاف الأحباب، ثم سمعنا ما حلّ بهم بعد انفضاض المعزين، عندما استفاق الحزن، والدمع، وأصوات الأحباب.
لا تصدق أن من يذهب للقتال لن يرتجف في لحظة في الطريق، لم يغره طعم الخبز والحياة في لحظة من لحظات الخندق.
لا تصدق تماماً ألسنة الأمهات وهن يرسلن أبناءهن إلى الحرب، لا تصدق تلك الأهازيج الوطنية التي تمجد البطولة وتضع الموت (حتى لو كان بصيغة استشهاد) فوق الحياة، فكلّها أشكال للعزاء، محاولات للتوازن، أحياناً شكل من أشكال الـ «لا حول ولا قوة». الفلسطينيون كسائر خلق الله، يحبون الحياة، إن استطاعوا إليها سبيلاً، وعندما لا يستطيعون سيقول بعضهم «يا محلا الموت»، وقد يلعن بعضهم الحياة جهاراً نهاراً، إثر قصف وموت وتهجير وجوع ولجوء وذل مديد، لكن معظمهم سيقول ويعيد: «نحبها ابنة الكلب.. الحياة»، على ما قال محمود درويش ذات مرة، نحبّها، وإنْ كنا نموت بهذا القدر فلأننا نحبها أكثر من اللازم، ونريدها كما يريدها ويحبها سائر خلق الله.
نحبها، ونحب أبناءنا بلا حدود. على الملأ سنقول: «ربنا يسهل عليهم»، وحين يذهب الحشد، وتنسحب الأضواء، سنبكي، كذلك، بلا حدود.
* كاتب من أسرة «القدس العربي»