من السهل على الإنسان أن يطالب بالديمقراطية والاحتكام لصوت الشعب، حين يكون معارضا، أو بعيدا عن السلطة، أو حين يعتقد أن الديمقراطية يمكن أن تكون رافعة جيدة يستطيع من خلالها الوصول إلى الحكم. التحدي الحقيقي هو الحفاظ على هذه القناعة، حينما تكون على رأس السلطة، وحين تعلم أن من الممكن أن يؤدي هذا النزول لرغبات الناس إلى إبعادك أو استبدالك.
الانتخابات البلدية والمحلية التركية الأخيرة، التي عقدت نهاية مارس/آذار الماضي، وما حدث فيها من تصدر للمشهد من قبل المعارضة، بعد نجاح «حزب الشعب الجمهوري» المنافس في الحصول على أصوات كافية للسيطرة على أهم المدن والبلديات، كانت مثالا على ما سميته «سخونة الديمقراطية». هذه السخونة لا يحتملها كثيرون، ويكفي أن نتذكر كيف أنها جعلت شخصا مثل دونالد ترامب، الذي مهما قيل عنه، كان رئيس أكبر دولة ديمقراطية في العالم، جعلته يأمر مناصريه بالخروج في الشوارع وإحداث شغب وعنف، يعلنون من خلاله رفضهم لنتيجة الانتخابات، التي أبعدته عن كرسي الرئاسة.
الديمقراطية تواجه مشكلة حقيقة، فأغلب الناس يتعاملون معها وفق المصلحة، فيتغنون بجمالها ويدعمونها بقوة حينا، ثم يكونون مستعدين لوأدها بلا رحمة، حين تتغير الظروف
تحدث كثيرون عن تراجع حزب «العدالة والتنمية» أو فشله في استعادة موقعه في أماكن مهمة كإسطنبول وأنقرة. ما لفتني أكثر من النتيجة، التي كانت في جزء منها متوقعة، كان ذلك القبول الهادئ لها. حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، الذي كان قد قدّم دعاية قوية مبنية على نجاحاته السابقة، وعلى ثقته في استعادة ما خسره في آخر انتخابات، أبدى قدرة فائقة على امتصاص الصدمة، بخطاب يعتمد مبدأ النظر إلى الأمام. في تعليقه على النتيجة اعتبر الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، أن في هذه الخسارة رسالة من الشعب، وأن حزبه يجب أن يلتقطها، وأن يستفيد منها، وأن يغير خطابه وبرنامجه وفقا لها. كان من معاني خطاب اردوغان أن سنن الله لا تجامل أحدا، وأن أي حزب إذا لم يطور نفسه ويتماشى مع المتغيرات والتحديات الجديدة، فإنه لن يلبث أن ينزوي ويتلاشى، حتى يصبح بلا وزن، أو يصبح، كما قال بتعبير لافت، كثلج يذوب بالتدريج تحت أشعة الشمس. أسعدت تلك الخسارة أعداء حزب اردوغان ولا شك، خاصة في العالم الغربي، الذي كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية السابقة وإعادة انتخاب أردوغان قد أحبطت الكثير من ساسته ومحلليه. في المقابل، إذا نظرنا للأمر من جانب آخر، فسوف نكتشف أن هذه الخسارة تظهر أيضا تناقض الدعاية الغربية. تلك الدعاية كان يحلو لها أن تصف الدولة التركية بالاستبدادية، التي لا مكان فيها للمعارضة. هنا يفرض سؤال نفسه وهو: كيف يخسر حزب حاكم الانتخابات في نظام استبدادي أو ديكتاتوري، وهل كانت الدولة تعجز، إن كانت تسير فعلا بلا مؤسسات، ووفق توجيهات رجل واحد، عن أن تتلاعب بنتيجة التصويت، أو أن «تهندسها»، كما يحدث في أكثر من مكان؟ إن هذا الإيمان بالديمقراطية كقيمة يجب الحفاظ عليها، بغض النظر عما يمكن أن تؤدي إليه، أو من يمكن أن تجلبهم إلى السلطة، مما يحمد لحزب «العدالة والتنمية»، وإن كان من الإنصاف القول إن ذلك لا يقتصر عليه، بل أصبح مما يتفق عليه أغلب الأتراك. في محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016 ظهر أن الغالبية تؤمن إيمانا راسخا، بأن حكما ديمقراطيا، حتى لو أتى بحزب منافس، هو أفضل من حكم العسكر، بل يمكن القول إنه لولا تحلي المعارضين لاردوغان بالوعي والوطنية الكافية، لكان ذلك الانقلاب مرّ بشكل سلس كما غيره. هذا المنطق، على بساطته، وعلى الرغم من أنه يتعلق بأمر بديهي، إلا أنه يجعلنا مجبرين على احترام التجربة التركية، خاصة لو عقدنا مقارنة مع ما يحدث في كثير من دول الجنوب، التي لا يجد فيها سياسيون، وحتى مثقفون مدعون لليبرالية، حرجا في الاصطفاف خلف قائد عسكري، إن كان ذلك القائد يعدهم بأن يقدم لهم بعض كعك السلطة.
هنالك عدة مشاهد استوقفتني في هذه الانتخابات ويمكن لها أن تشرح بشكل أوضح ما أعنيه بالديمقراطية الساخنة، من هذه المشاهد، على سبيل المثال، أنه كان هناك نزاع حول فوز حزب «الديمقراطية ومساواة الشعوب» الكردي، المتهم بالتقارب مع «حزب العمال الكردستاني»، برئاسة البلدية في ولاية وان، التي تقع في أقصى شرق تركيا. بعد ساعات طويلة من الاضطراب، حسمت اللجنة القضائية العليا المستقلة المشرفة على الانتخابات الأمر لتعلن أن مرشح الحزب عبد الله زيدان هو الفائز وأنه يتوجب بناء على ذلك تسليم إدارتها إليه. هذا الإعلان لم يعجب الكثيرين، خاصة من كان منهم معترضا على السماح لمرشح هذا الحزب بخوض الانتخابات، لكن منطق اللجنة كان مختلفا، فبغض النظر عن أي شيء، فإن زيدان، وهو شخصية سياسية مثيرة للجدل، حصد العدد الأكبر من الأصوات في المدينة. في هذا المثال تتضح سخونة الديمقراطية، التي تسمح لمتعاطفين مع حزب يمارس الإرهاب ضد الدولة بخوض الانتخابات، فقط بشرط التحلي بالمسؤولية، وعدم تبني منطق الإرهابيين بشكل معلن. ليس هذا فقط، ولكن حتى حينما يحدث إشكال فني وتتاح فرصة لإلغاء فوز ممثل الحزب المعارض وتنصيب منتمٍ للحزب الحاكم، الذي يأتي في المرتبة الثانية، فإن اللجنة الانتخابية المستقلة تعود لتنصر الأول وتؤكد فوزه ضد الثاني.
حزب «الديمقراطية ومساواة الشعوب» فاز بعشر ولايات في جنوب شرق تركيا، حيث الأغلبية الكردية، وفيما يرى البعض أن هذا يعني أن خطابه كان مقنعا لأولئك الأكراد، يرى آخرون أن الناس دعموا الحزب اتقاء لغضبه أو غضب حليفه، العمال الكردستاني، الذي يأمل سكان تلك المناطق في أن لا يحتاج بعد الفوز للقيام بأي عمل غاضب فيه إرهاب أو انتقام. من جهة أخرى، وبغض النظر عن هذا الجدل حول أسباب تقدم الحزب، فإن الوصول لهذه النتيجة ينفي بشكل دامغ أي حديث عن التمييز، أو الاضطهاد، كما يجعل حجج حرمان الأكراد من ممارسة حقوقهم السياسية ضعيفة. على الجانب المقابل تألق حزب الشعب الجمهوري، الذي حصل على الجزء الأهم من الجائزة الانتخابية. اللافت هنا أيضا كان تصريحات رموزه، التي كانت أبعد ما تكون عن التشنج والمبالغة في الفرح. كل هذا جعل مسألة الانتخاب برمتها تعود لأصلها البسيط، الذي لا يعدو أن يكون منافسة على خدمة الشعب عبر طرح برامج مختلفة. بهذا الاتجاه يمكن أن نقرأ تصريح أوزكور أوزل زعيم حزب الشعب الجمهوري، الذي قال معلقا على النتيجة حينها، إنه لا يوجد خاسر في هذه الانتخابات. في الاتجاه ذاته جاءت تصريحات منصور ياواش، التي قال: «فزنا ولم ننتصر، فالنصر يكون على الأعداء، ومن فزنا عليهم ليسوا أعداءنا بل منافسونا».
يذكّر كل هذا بعبارة منسوبة للزعيم السوداني الراحل إسماعيل الأزهري: «الديمقراطية نور ونار، فمن أراد نورها، فليصطل بنارها». تبدو تلك العبارة شديدة المثالية وكأنها ولدت في عالم موازٍ، أما في عالمنا الذي نعرفه، وفي أغلب دولنا المنكوبة، فإن الديمقراطية تواجه مشكلة حقيقة، حيث أن أغلب الناس يتعاملون معها وفق المصلحة، فيتغنون بجمالها ويدعمونها بقوة حينا، ثم يكونون، أي الناس أنفسهم، مستعدين لوأدها بلا رحمة، حين تتغير الظروف.
كاتب سوداني