مبكراً انطلق في الكتابة القصصية والروائية، والنثرية، مراكماً في جولته القلمية العديد من الكتب الأخرى المذكرات واليوميّات، ومن يقرأ له كتاباً واحداً سيتعلق بما يكتبه، ليبحث عن المزيد مما يؤلفه إيتالو كاليفنو، وقد وقعت في هذا الشرك المرهف حين قرأت له كتاب «مدن غير مرئية» وكان وقعه عليّ حينها وقعاً محبباً، يطلب المزيد من كتب هذا الكاتب فقرأت له: «السيد بالومار» و«ست وصايا للألفية الثالثة» و«حكايات شعبية إيطالية» وهذا الكتاب الذي نتناوله هنا «ناسك في باريس» ترجمة هدى نصر الله، هو عبارة عن مقابلات أجريت مع الكاتب في أوقات متقاربة من حياته، لصحف ومجلات عالمية، وقد تخللتها بعض المحاضرات والدروس الأدبية، التي كان يلقيها عبر دعوات، كانت تصل إليه من جامعات ومعاهد أدبية وفنية من بعض عواصم العالم. فكالفينو رجل مسافر وعاشق للمدن الغريبة، أحبّ نيويورك لكنه أقام في باريس، ولد في كوبا وترعرع ونشأ في سان ريمو الإيطالية، مكان جده ووالده، فجذوره تمتد عميقاً في الساحل الإيطالي والغابات التي كان يقضي جلّ وقته فيها، وارثاً عن أبيه وأمّه حب عالم النبات، فكلاهما الوالد والوالدة عالمان في الأحياء الطبيعية، فالطبيعة والغابات جزء منهما، شكّل عالم وطفولة كالفينو، عالم الهدوء والطمأنينة، والحياة العذراء، وكان ذلك قبل أن تطل بوادر الحرب العالمية الثانية في الثلاثينيّات، لتلقي ظلها الحربي الأسود على البلاد، متوّجة بظهور الموجة الفاشية ورائدها موسوليني القائد الإيطالي الشرس، والمؤازر الأصيل للنازية وقائدها المثالي هتلر.
كانت عائلة كالفينو لديها ميل نحو الاشتراكية، ومن هنا جنوح وربما التربية وحس التآلف المجتمعي والإيمان بالقيم الإنسانية كفاعل أساس في بناء الحياة عامة، جعلت من كالفينو شيوعياً في مطالع حياته وشبابه، كرد فعل مناهض للفاشية، التي كانت تحارب الاشتراكية والأفكار التقدمية والرؤى العلمية، ومن هنا أيضاً انخراطه في صفوف المقاومة، وحركة الأنصار، التي كانت تقاوم بضراوة من القرى والجبال العصابات الفاشية، وأجهزتها القمعية.
في تساوق تام مع الفكرة الإنسانية، تلك التي حملها مبكراً كالفينو والحس الإبداعي الكامن في داخله وفي مشاريعه الكتابية انطلق يكتب في الصحافة اليسارية، محرراً وكاتباً، ومساهماً في دور نشر ككاتب أدبي وقارئ لروايات وأعمال لكتّاب ستأخذ طريقها إلى النشر.
كان كالفينو يسابق شهرته التي راحت تنتشر خارج البلاد، خصوصاً في فرنسا المجاورة، ومن ثم أمريكا حيث العالم الواسع الأرجاء، هذا العالم الموصول بالنشر والدعوات والمحاضرات في غالب المدن الأمريكية، إلى حيث جامعاتها ومعاهدها وصالات فنونها، تستدعيه ليقول رأياً، ويفند فكرة، ويرسم مساراً ما للسبل الإبداعية، التي سلكها وأنتج فيها الكثير، قصصاً وبحوثاً وروايات وأدب رحلة، وكل ما له صلة بعالم الإبداع الثقافي.
تستطيل وتمتد رحلة كالفينو إلى أمريكا، جائباً القارة، بالحافلات والقطارات والطائرات والسيارات المستأجرة، متوقفاً هنا وهناك لينام ليلة في الفنادق البعيدة، والمحطات الموحشة، والبلدات الخالية، فيكتب عن كاليفورنيا وسان فرانسيسكو ونيو مكسيكو وأورليانز وغيرها من البلدات الكبيرة، وهو صحبة العديد من الكتاب والشعراء والنقاد والأدباء العالميين، الذين حصلوا على منح أمريكية أدبية، لغرض استكشاف العالم الجديد، فرحلته كانت مصحوبة بعدد من الأسماء اللامعة في زمنها، كالألماني غونتر غراس «جائزة نوبل» لكن غونتر غراس سوف يمنع من الدخول، بعد أن أجرى العاملون في الحدود الأمريكية فحصاً طبياً للجميع قبل الدخول الى أراضيهم، فمنع بسبب وجود مرض السل في رئتيه، وكان المرض كامناً فيه دون علمه به، فعاد أدراجه الى ألمانيا ليباشر في بلده العلاج.
يكتب كالفينو يوميّات سان فرانسيسكو في عام 1960 جائباً النوادي والحانات والبلدات مع نخبة من الأصدقاء الكتاب، وبالأخص مع صديقه الشاعر الذي تعرّف عليه في هذه الرحلة كينيث روكسروث هذا الذي يصف لكالفينو جيل «البِيت» على أنهم ظاهرة سطحية، إنهم مرتزقة، بينما الجيل الحقيقي يوجد في الجامعات، ثم يعرّج على الكاتب الأمريكي هنري ميلر، كاتب الإيروتيكا واصفاً إياه بأنه يعيش في مدينة «بيغ سور» فهو يكتب هناك ولا يخرج من منزله أو يستقبل أحداً، متفرّغاً لكتابة كتبه الجديدة، قبل رحيله عن الدنيا، بعد أن تخطى السبعين عاماً وتزوّج حديثاً فتاة في التاسعة عشرة. يقول كالفينو أن أفضل طريقة وواسطة لرؤية كل أمريكا هي السيارة، فهي ستدور بك من بلدة الى أخرى لتريك مدى التشابه ومدى الملل في هذه المدن ولتدرك في النهاية «أن 95 % من أمريكا هي بلد قبح وقمع وتشابه» ثم يضيف: «في هذه الجنان الأرضية، حيث يعيش الكتّاب لن أعيش وإن دفعت لي التكاليف كلها. لا يوجد شيء لفعله غير الشرب» مستطرداً في حديثه عن كاتب شاب أصدر رواية، عن دار نشر هناك، وكانت الأكثر مبيعاً، فهو يسكر في الليل، ليكسر زجاج نوافذ منزله، وفي الصباح سيأتي الى دار النشر بيدين مجروحتين.
فعن سان أنجلس أخبره الجميع بأنها بلدة مريعة، ولسوف يكرهها وهي بعكس كاليفورنيا التي يحبها الجميع، لكن كالفينو له نظرته الخاصة، ورؤيته المختلفة كذلك عن الجميع، ولكونه مختلفاً حتى في الحياة والكتابة فهو بالتأكيد سيرى لوس أنجلس معتدلة الجمال، وهائلة المساحة وواسعة وكبيرة، بتمدد مقاطعاتها، فهي حسب وصفه مثل مدينتي تورين وميلانو الإيطاليتين، فهي بجبالها الضخمة وبعد مسافاتها بين بلدة وأخرى، ستبدو مدينة مختلفة عن المدن الأخريات، مثل كاليفورنيا بشاطئها وشمسها وسواحلها الرملية، لهذا تبدو لوس أنجلس شبيهة بالمدن الصناعية، وعصية ومستحيلة، فبعد أربعة أيام «أدركت أن الحياة هنا مستحيلة، أكثر استحالة من أي مكان في أمريكا وهي للزائر المؤقت ـ الذي يفترض أن يستمتع بالمدينة أكثر من القاطنين فيها ـ مصدر كآبة. تعني المسافات البعيدة أن الحياة الاجتماعية مستحيلة» ويضيف كالفينو «في الواقع هي ليست مدينة، بل تكتلات بشرية يكسبون جيداً».
كاليفينو الذي أقام في باريس لم يكتب عن باريس، مثل نيويورك وروما وغيرهما، كونه مقيماً فيها، ولا يستطيع الكتابة عن المكان، إلا إذا ابتعد عنه وتخلى عن المكان واستبدله بآخر، وهو مثل كتاب عديدين لا يكتبون عن المكان الذي يقيمون فيه، أما العنوان الذي يحمله هذا الكتاب «ناسك في باريس» فهو نتاج مقابلة إذاعية حصيلتها أربع صفحات فقط.
كاتب عراقي