عندما يكون الخروج مدخلا لصحوة لا يذكيها إلا ضمير يافع لم يتلوث بعد بعوادم محركات المصالح الأنانية لجيل شائخ يتحكم بمستقبل العالم وهو أسير خيارات متخمة بالجشع الكامن بمقرراته ، صحوة ذهن متقد لا يركن إلا للفطرة في التمييز بين الضحية والجلاد ، بين سلوكيات البشر وأشباههم ، خروج يعيد للأذهان ما كان من فورات وثورات طلابية هزت العالم وأعرق جامعاته في أمريكا وأوروبا !
تتزاحم الخواطر على صاحبها كما الذكريات التي تستفزها عودة غير منتظرة لبطل من أبطالها أو حالة قرينة تنفض عنها غبار متراكم يغطي شريطها العصي على التلاشي!
المخاض الوطني
أتذكر ما قاله أحمد فؤاد نجم في واحدة من قصائده التي أستبشر بها زخما هادرا عندما انخرط طلاب وتلاميذ مصر بالمخاض الوطني المقاوم وقتها للانفتاح على التطبيع والتركيع: “رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني” . . . ونقول معه :
“لا التفاهة والانعزالية نفعت، ولا غسل أدمغة الناس، ولا الترهيب بمعاداة السامية، ذول ورد جناين أمريكا، يا أمريكانية”.
طلاب أمريكا ومن كل مشاربها، يخرجون على النص السائد، ويسطرون نصا حرا لا يتنفس هواء البيت الأبيض الفاسد، والملوث بكل جراثيم وميكروبات مداخن كارتلات السلاح، وهستيريا البورصة، جيل تجاوز نخب سلفه المتكلسة غطرسة ونرجسية، وغياب عن الواقع ، هذا السلف الذي أصيب بجنون العظمة!
هؤلاء الطلاب لم يرضوا بالطاعة العمياء سبيلا لطلب العلم وتحصيله، فالعلم حقائق تبرهن بالواقع المختبري والمجتمعي ، وحصيلته ينبغي أن تخدم بني البشر بمعزل عن الانتماء والعرق واللون والجنس والدين، وعندما لم يجدوا ما توقعوه، وإنما اكتشفوا ندرة للآدمية في روح المنظومة برمتها، حيث يتستر الشر ببهرجة الشعارات والقوانين المطاطة الزائفة ، فيصابون بخيبة ، يفاعتهم تدفعهم لتجاوزها بالتمرد نحو التغيير الذي ستحتمه الحاجة لأنسنة هذا العالم الغابة !
لأمريكا وجهان
وجه تمثله طغمة تحتكر المال والسلطة وتدير نفوذا إمبراطوريا حول العالم، وترتكب كل الموبقات للاستبقاء عليه وترسيخ وحدانيته، وهي تستثمر بكل قاطني أمريكا لتراكم الثروة والسطوة وتوريثها، وتستثمر بالأرض وما عليها لقطع الطريق على المنافسين، وقانونها هو البقاء للأقوى، في عالم هو سوق، فيه كل شيء سلعة تخضع للعرض والطلب حتى البشر وأخلاقياتهم !
ووجه آخر مرصع بالكدح والنضال وكانت له بصمة مازالت حية ، إضراب عمال شيكاغو 1886 الذي اتخذ رمزا للاحتفال بيوم العمال العالمي في الأول من شهر أيار/ مايو، وإضراب عاملات الخياطة الأمريكيات 1908 في نيويورك والذي استنبط منه الاحتفال بيوم المرأة العالمي 8 آذار/مارس، وهو وجه مارتن لوثر كنغ ، ومالكوم إكس ، وأنجيلا ديفز ، حيث مقاومة العنصرية والمطالبة بالحقوق المدنية ، هو وجه الحركة الشعبية المناهضة لحرب فيتنام ، ومكافحة نظام الأبارتايد في جنوب افريقيا ، هو وجه الطيار الأمريكي رون بوشنل الذي حرق نفسه أمام السفارة الاسرائيلية وهو يقول: لن أتواطأ في الإبادة !
لأمريكا وجه آخر يتزين بروح وشاعرية جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ، واستشراق إدوارد سعيد ، وأجيال جديدة لا تعرف حدودا للعطاء الإنساني .
في مديح الظل العالي ينصف محمود درويش الوجه القبيح لأمريكا وتمثاله المظلل بما يستحق قائلا: أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا، لأمريكا نحفر ظلنا العالي و. . . على تمثال أمريكا.
العنصرية البيضاء
بذات العنصرية البيضاء ، الآرية والأنكلو سكسونية ، التي أزهقت أرواح أكثر من 50 مليون هندي أحمر من سكان أمريكا الشمالية الأصليين، أزهق هتلر بمحرقته أرواح الملايين من أبرياء اليهود والغجر والمقاومين لزحفه القاتل، وبتلك النزعة نفسها المهجنة بالتصهين العنصري تسويقا لخرافة إسرائيل التلمودية ، خدمة للمشروع الإمبراطوري الأمريكي في الشرق الأوسط ، تقوم محاكم التفتيش التابعة للطغمة المتحكمة في الكونغرس الأمريكي بما يطابق عمل لجنة جوزيف مكارثي سيئة الصيت، بملاحقة ومساءلة رؤساء الجامعات وأساتذتها ، وملاحقة الطلبة لمجرد تعبيرهم عن صوت الضمير والعقل الإنساني الداعي للاحتجاج على نظام الإبادة الجماعية والفصل العنصري في إسرائيل والمطالبة بمحاسبته والتوقف عن دعمه ، قامت الدنيا ولم تقعد، حيث استنفر الوجه القبيح كل تقاطيعه وراح يهدد ويتوعد ، ويتهم الجموع بالمس بالمحرمات ، ويفصل ويرسل صنوف الشرطة لقمع واعتقال المعتصمين من طلبة الجامعات الذين لا يريدون باعتصاماتهم واحتجاجاتهم السلمية سوى إيقاف الانحدار إلى حضيض البربرية، بينهم مسلمون ويهود أحرار يجمعهم الانتصار للعدل والكرامة الإنسانية ، وكالعادة الوجه القبيح الطاغي لأمريكا يواصل دجله بالادعاء أن مجرد انتقاد إسرائيل هو معاداة للسامية !
تتواصل جلسات الاستدعاء والسماع والشهادة في الكونغرس منذ أشهر لمحاصرة بواكير الحراك الجامعي ، وتحديدا الطلابي المناهض لحرب إسرائيل على غزة ، المطالب بإيقاف الدعم الأمريكي الأعمى لها ، وعلى جدول أعماله مدراء ورؤساء لنحو 40 جامعة أمريكية حكومية وخاصة ، وكان من نتائج تلك الجلسات استقالات للبعض الممتعض من المستجوبين ، بعد أن جرى التشهير بهم ، وتعهد آخرين بالتصدي لأي حراك طلابي يسيء لإسرائيل ، وكان من بين هؤلاء نعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا ، والتي حاولت التملص من الاستجواب ، بكونها حديثة العهد بوظيفتها ، لكن اتساع نطاق الاحتجاجات في جامعتها ، جعلت المستجوبين يصرون على الاستماع لشهادتها ، وعندما حضرت جرى عليها ما جرى على الآخرين ، لكنها وبتملق براغماتي استجابت للمطالبات الداعية لاستبعاد من ذكرهم المستجوبين بالاسم من المحاضرين والأساتذة الذين ظهرت لهم مواقف منتقدة لإسرائيل ، وتعهدت بإنهاء أي احتجاج يخالف سياسة الجامعة ، وكان المثير للاشمئزاز هو استجواب أحد الأعضاء الجمهوريين لها عندما سألها : هل تعلمين بعقد الرب مع إبراهام ، عندما قال له إذا باركت إسرائيل فسأباركك ، وإذا لعنتها فسألعنك ، هل تريدين أن يلعن الله جامعتك ، أجابته رئيسة جامعة كولومبيا : الآن عرفت ، ولا أريد أن يلعن الله جامعتي !
عن أي رب صهيوني مختلق يتحدث هذا النائب الجمهوري المعتوه ؟ وأي أبراهام مزيف يقصد ؟ وما ذنب الناس بتحمل تبعات ترهات ادعياء شعب يريد من الله أن يجعله شعبا فوق الشعوب ، الله هو الحق والعدل ، وحتما لا نجد شيئا منهما عند بني إسرائيل ، يكذبون على أنفسهم وعلى الناس ، وهم يعلمون !
كاتب عراقي