نهاية غرب الدكتور جيكل ومستر هايد

يعتبر تحرك الجامعات الغربية ضد سياسة الانحياز الفظيعة لحكوماتها، خاصة الأنكلوسكسونية في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين، مؤشرا على بدء محاسبة حقيقية للسياسات الخارجية لهذه الدول، بعدما كانت شأنا سياديا يخضع لمفهوم «المصلحة البراغماتية».
وتمارس الدول الغربية نوعا من التناقض في تصرفاتها، بين ما هو خارجي وما هو داخلي. وهي في تصرفاتها قريبة من شخصية الرواية الشهيرة «مستر جيكل والمستر هايد» التي ألفها روبرت لويس ستيفنسون سنة 1886، وتروي حكاية شخص يعاني من «انفصام الشخصية» الى درجة غريبة من الناحية الأخلاقية، شخصية طيبة تمثل الخير وهي الدكتور جيكل، وأخرى شريرة ومجرمة وتجسد الشر في أعمق معانيه وهي المستر هايد. وهذه الرواية تجسد بصيغة غريبة سياسة الغرب التي بدأت في القرن السابع عشر وتستمر حتى وقتنا الراهن.
في القرن التاسع عشر بدأ مفهوم الدولة في الغرب، خاصة في دول مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، يتطور في اتجاهين الأول، وهو منح وبشكل تدريجي الحقوق لشعوب هذه الدول مثل الرعاية الطبية والانتخابات وحرية الصحافة والتعبير، وهكذا كانت الدولة الغربية هي الدكتور جيكل.

ما يجري في الغرب حلقة أخرى من تطور هذه المجتمعات وعنوانها البارز هو مبادرة شريحة مهمة من المجتمع تطالب بضرورة التعاطي مع الشأن الدولي بأخلاق القانون

وتجلى الاتجاه الثاني في تطوير تطبيق سياسة مختلفة ومتناقضة في العلاقات الدولية، وبدأت هذه الدول، خاصة فرنسا وبريطانيا في استعمار العالم بالحديد والنار، لتلتقي مع شخصية المستر هايد، التي يغيب عنها الوازع الأخلاقي، وتجسد الشر. لم تكن شعوب هذه الدول الغربية تهتم كثيرا بالسياسة الخارجية ولم يكن لها اطلاع على خباياها، فقد كانت تعتبرها من الملفات السيادية التي تهم التاج البريطاني أو الرئاسة الفرنسية أو دولة أوروبية استعمارية أخرى. وعادة، لم تكن برلمانات هذه الدول تناقش الاتفاقيات الدولية، ولا القرارات الخاصة بالعلاقات الخارجية إلا نادرا. ومن أسباب قبول الشعوب الغربية الاستعمار هو نجاح الرواية التي روجت لها الحكومات وشركات وقتها ومفادها، نقل الحضارة الغربية والتقدم الى باقي العالم. وعودة الى نوعية الكتب ومضامين الصحافة في القرن 19 وبداية العشرين، سنجد سيادة نظرة غرائبية تجاه باقي شعوب العالم، ولاسيما في افريقيا وآسيا، بأنها متخلفة عن ركب التطور والحضارة، وكان هذا سببا مقنعا للتوسع الاستعماري، كما نجحت مجموعة من المفكرين والسياسيين وقتها في الترويج لرواية وهي، إذا لم نبادر على الاستفادة من خيرات تلك المناطق، سيبادر جيراننا وستصبح دولتنا ضعيفة الموارد، وربما فريسة أطماع الباقي. هذه نظرية انتشرت بين الفرنسيين والبريطانيين، حيث إن الفرنسي كان يقول «إذا لم نستعمر نحن هذه المنطقة، أو تلك سيستعمرها البريطاني، وسيصبح أقوى منا»، والعكس صحيح بشأن تفكير البريطاني تجاه الفرنسي. غير أن هذا الوضع تغير خلال العقدين الأخيرين ومنذ حرب العراق بصورة أوضح، لم تعد السياسة الخارجية مجال السيادة، بل أصبحت من ضمن القضايا التي تشغل الرأي العام الغربي وليس فقط المؤسسات، بين مؤيد لدولته من دون شروط، وهي شريحة تتراجع نسبتها، وشريحة تتعاظم مع مرور الوقت، تطالب بضرورة عدم الحديث باسم الشعوب في القضايا الحساسة مثل الحروب غير المشروعة، وتبرير الأعمال الوحشية. ويتصدر هذا التيار جزء من اليسار وجمعيات غير حكومية ونسبة من طلبة الجامعات الذين يتظاهرون خلال هذه الأيام في مختلف الجامعات الغربية، ضد حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وعمليات التقتيل في الضفة الغربية. وعلّق الفرنسي بيرنارد بادي أستاذ العلاقات الدولية في معهد العلوم السياسية في باريس، إن ما يحدث من احتجاجات في الغرب، خاصة في الجامعات، يعني انتفاضة شريحة من المواطنين الذين يطالبون بتخليق العلاقات الخارجية، وأن لا تخضع لمفاهيم القوة والانحياز.
لا يمكن الاستهانة بإعلان واشنطن منذ أيام وقف تصدير القنابل الى إسرائيل كإجراء ضغط لوقف قتل المدنيين في رفح. القرار الأمريكي نسبي لأن واشنطن لن تفرط في الأمن القومي الإسرائيلي، إلا أن ما أقدم عليه البيت الأبيض هو نتيجة ضغط الشارع، خاصة طلبة الجامعات. إنها حلقة أخرى من حلقات تحويل السياسة الخارجية الى شأن يهم الجميع مثل الشأن الداخلي، والتعاطي معه بالأسلوب نفسه، إذ لم تعد هذه الشريحة المتعاظمة تقبل بسيادة القانون في شؤونها الداخلية وخضوع السلطات الحاكمة للقانون، في المقابل تقوم هذه السلطات نفسها بنهج سيادة قانون الغاب في العلاقات الخارجية، وبأموال المواطنين الذين يعتقدون في سيادة نوع من الديكتاتورية في الغرب، بسبب تدخل قوات الأمن في مختلف الجامعات، يفتقدون لرؤية عمق الأشياء، ويقدمون خدمات جليلة للأنظمة السلطوية والديكتاتورية في باقي المناطق، ومنها بعض الدول العربية لتبرر خروقات حقوق الإنسان التي تقوم بها. الغرب شهد تدخل الأمن وبشكل عنيف، مثل حالة الجامعات، ولكنه لم يشهد اختطافات، ولم يشهد اعتقال أشخاص بسبب تدوينة، ولم يشهد إغلاق منابر إعلامية، ولم يشهد تلفيق تهم ضد الناشطين. ما يجري في الغرب هو حلقة أخرى من تطور هذه المجتمعات وعنوانها البارز هو مبادرة شريحة مهمة من المجتمع تطالب بضرورة التعاطي مع الشأن الدولي بأخلاق القانون، مثلما يجري في الغالب مع الشأن الداخلي، إنها بداية نهاية ازدواجية الخطاب بين الداخلي والخارجي، وتراجع تلك الرؤية التي ارتقت إلى نظرية مفادها، أن العلاقات الخارجية أمر سيادي للدولة، قدر ما يتذرع البعض بأن هذا الأمر ليس بالجديد، وقد حدث في حرب فيتنام، واستمر البيت الأبيض وعواصم أخرى في سياستهم الخارجية بالكيل بمكيالين. نعم هذا صحيح، ولكن لا ننسى أن طيلة قرون والسياسة الخارجية مقتصرة على السلطة الحاكمة، وأن الانتقال من مرحلة الى أخرى يتطلب مدة زمنية قد تقاس بعقود، لأن تجارب الشعوب ليس مباراة لكرة القدم، تبدأ في دقيقة معينة وتنتهي في دقيقة معينة، بل هي مسلسل مفتوح زمنيا يتأثر بمستوى ونوعية التراكم العملي والمعرفي.
فلنتأمل هذا المشهد، كان انتقاد إسرائيل من المحرمات الكبرى في الغرب، وتدريجيا، خاصة ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول انهارت رواية إسرائيل بأنها مضطهدة، وانهارت نظرية إسرائيل هي ديمقراطية الشرق الأوسط، وبدأت شريحة كبيرة في الغرب ترى في إسرائيل عاملا من عوامل زعزعة الاستقرار العالمي سياسيا ودينيا وثقافيا. إنها بداية نهاية غرب الدكتور جيكل ومستر هايد.
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية