العالم ينتصر لصمود غزة، ليس فقط بتأييد الحق الفلسطيني، ولكن أيضا بكشف الغطاء عن طبيعة إسرائيل، وطبيعة الصهيونية السياسية والدينية، وكشف زيف الادعاء بأن إسرائيل دولة ديمقراطية، يستظل بولايتها كل يهود العالم. صمود غزة ينسف أساس شرعية وجود دولة عنصرية تقوم على التمييز الديني والقومي، مركز سياستها هو إبادة الشعب الفلسطيني وهويته، وسلب أرضه وتاريخه. وبسبب هذا الصمود تفقد إسرائيل يوما بعد يوم مصدر قوتها المعنوية، ولا يتبقى لها إلا مصادر القوة الوحشية والبربرية التي تتوافق مع طبيعتها. وفي الوقت الذي تعمل فيه آلة الحرب العدوانية الإسرائيلية على تشديد الحصار المضروب على الشعب الفلسطيني في غزة وعزله تماما عن العالم، والإمعان في جرائم القتل بالأسلحة الفتاكة، والتجويع حتى الموت، والتدمير حتى الخراب التام، فإن صمود الفلسطينيين بقوة إرادتهم، وتضامن أحرار العالم معهم، يخلق تيارا دوليا متعاظما، يحاصر إسرائيل من كل جانب، ويهدد مؤيديها بالعزلة، ما جعلها بحق دولة منبوذة، من جانب قوى الحرية والديمقراطية والعدل والسلام في الشارع السياسي العالمي، وفي المؤسسات الدولية وأروقة القضاء والحق.
الشعب الفلسطيني ليس محاصرا، بل إن صموده هو الذي يحاصر إسرائيل ويعزلها ويعري عوراتها، ويفضح كل الأكاذيب التي قامت عليها. في ذكرى النكبة يؤكد صمود الفلسطينيين ومعهم أحرار العالم كله، أن التاريخ لن يشهد نكبة أخرى بعد نكبة 1948، ذلك أن حرب غزة فتحت الطريق لمراجعة موضوعية لتاريخ وطبيعة الحركة الصهيونية، وهي مراجعة تنفي عنها انتسابها لحركات التحرر القومي، وتنفي عن إسرائيل ما تروجه عن ديمقراطيتها، وما تدعيه عن شرعية تمثيل كل يهود العالم.
الحرب، أي حرب، ما لم تكن ضمن رؤية سياسية واضحة عملية وقابلة للتنفيذ، فإنها تكون مجرد حماقة ثقيلة التكلفة
الصهيونية حركة استعمارية
ليست أبداً حركة تحرر قومي، بل هي حركة استعمارية استيطانية، نبتت من أحشاء النظام الاستعماري القديم، وقامت من دون شرعية، ونمت وتطورت بالعنف.
قبل حوالي قرن من الزمان نشطت الحركة القومية الصهيونية بقيادة حاييم وايزمان وزمرة من قيادات الحركة، بين لندن وباريس وعواصم أوروبية أخرى، تطالب بوطن قومي لليهود في فلسطين، نظير الخدمات التي قدمتها لكل من الإنكليز والفرنسيين في إسقاط الإمبراطوريات القيصرية الروسية، والعثمانية التركية والقيصرية الألمانية. حاييم وايزمان، عالم الكيمياء الحيوية الروسي الأصل، ساعد جيوش الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى في تطوير كيماويات الأسلحة والمتفجرات المستخدمة في الحرب. وقد جاءت مطالبة الحركة الصهيونية بجعل فلسطين دولة يهودية متزامنة مع مطالبة الحركة القومية العربية بقيادة الأمير فيصل بن الشريف حسين بأن يكون البلد نفسه جزءا من مملكته بمساعدة الإنكليز والفرنسيين. ومن ثم فقد نشأ التناقض الجوهري بين الحركتين بشأن مستقبل فلسطين.
العداء للسامية مشكلة أوروبية
في ذلك الوقت كان يهود أوروبا يعانون من موجة «التعصب ضد السامية»، التي انتشرت في فترة الغليان والحروب، التي رافقت سقوط الإمبراطوريات الكبرى في شرق ووسط أوروبا. وكانت موجة التعصب الأوروبي ضد اليهود، هي محرك نشأة الحركة الصهيونية، وكانت فلسطين بمثابة الملاذ الآمن لهم. في هذا السياق، اعتبر الساسة في دول مثل فرنسا وبريطانيا – القوى البحرية القومية الجديدة – الحركة الصهيونية واحدة من حركات التحرر القومي، التي تستحق التأييد، خصوصا مع الدور الذي لعبه اليهود في الحرب، ورغم أن الدراسات الكلاسيكية للحركة الصهيونية ما تزال تتمسك بتلك النظرة، فإن التاريخ الآن كشف زيفها، خصوصا بين جيل الشباب الذي سيصنع سياسة المستقبل ويخرج من بين أبنائه قادتها، بمن في ذلك الشباب اليهودي الرافض للصهيونية، وغير القابل بزعم ولاية إسرائيل السياسية على يهود العالم وضرورة ولائهم لها.
كما كشفت حرب غزة للعالم أن إسرائيل دولة استعمارية استيطانية، نشأت من رحم النظام الاستعماري القديم، على أساس وعد غير قانوني منحه وزير خارجية بريطانيا عام 1917 لقادة الحركة، بعد أن قدم السير هربرت صامويل للحكومة خطة تفصيلية عن «مستقبل فلسطين»، اقترح فيها إخضاعها للانتداب البريطاني وتوطين اليهود الأوروبيين هناك، ثم أصبح صامويل نفسه أول مندوب سامي بريطاني على فلسطين، مهمته الأساسية هي إقامة أركان دولة صهيونية. وعندما تم تعيينه عام 1920 فإنه اعتبر نفسه اليهودي الأول الذي يعود لحكم فلسطين منذ نحو ألفي عام. وقد تمثلت أولوياته في توسيع الهجرة الصهيونية، وتسهيل تملك المهاجرين اليهود للأرض وممارسة الأنشطة الاقتصادية، وإنشاء تشكيلات عسكرية منظمة وتسليحها داخل تجمعاتهم السكنية/ الإنتاجية. كما وضع صامويل نظاما إداريا يضمن الفصل بين المهاجرين اليهود والسكان الفلسطينيين، بمن فيهم المسيحيون، وأصدر قوانين محددة في شؤون الإدارة، ما يزال كثير منها حتى الآن جزءا من «النظام الأساسي» الذي يستند إليه النظام السياسي في إسرائيل.
وقد برهن انتقال إسرائيل سياسيا من اليسار إلى اليمين، ثم إلى أقصى اليمين الديني الصهيوني المتطرف، على أنها دولة لا تتسع لغير اليهود، ولن تتسامح حتى مع اليهود غير المتطرفين دينيا، وأنها في طريقها للتحول إلى واحد من أسوأ النظم السياسية – الدينية في العالم، تقوم على التمييز ليس فقط بين اليهود وغير اليهود، وإنما بين اليهود أنفسهم، وهو ما يعبر عن نفسه في التعديلات التي يتم إدخالها على النظام القضائي، منذ أوائل العام الماضي. وفي هذا السياق فإن تلك التحولات تكشف عن نية عميقة في ابتلاع فلسطين بأكملها، ودمج الأرض المحتلة داخل بنية الدولة الصهيونية.
الحرب محرك اتساع إدانة إسرائيل
وتجسد حرب غزة مراجعة لاستراتيجية التوسع الاستيطاني الصهيوني. وبعد أن كانت إسرائيل قد رحلت عن قطاع غزة عام 2005، فإنها تعود إليه بغرض الاستيطان، على التوازي مع تكثيف هجمات المستوطنين على شمال الضفة الغربية والقدس الشرقية، والعمل على ضمه إلى مخطط إقليمي للتوسع الاقتصادي، وتكريس النفوذ الاستراتيجي. هذا المخطط يشمل بالأساس مصر والأردن والسعودية، بمشاركة دولة الإمارات. ومع ذلك فإن دخول قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى غزة، كان في جوهره اجتياحا عسكريا بلا أفق سياسي، أو خطة عملية لها نهاية محددة. الحرب، أي حرب، ما لم تكن ضمن رؤية سياسية واضحة عملية وقابلة للتنفيذ، فإنها تكون مجرد حماقة ثقيلة التكلفة. ولا يبدو حتى الآن أن الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية قادرة على تأمين احتلال غزة وإخماد المقاومة، ولا أن هناك خطة سياسية واضحة لما بعد الحرب. وبسبب هذا الإفلاس العسكري فإن هدف الحرب يتوقف عند مجرد زيادة وتيرة القتل والتدمير، مع التطلع إلى مصادفة قد تتيح استعادة جثمان جندي إسرائيلي، أو واحد من المحتجزين لدى المقاومة، لإعلان النصر، خصوصا بعد أن أتاحت واشنطن للجيش الإسرائيلي في الأيام الأخيرة معلومات قالت إنها تتعلق بأماكن وجود وتحركات قيادات المقاومة. وقد أدى اتساع نطاق الاحتجاج على حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، إلى ظهور تيار عالمي لمراجعة العقيدة الصهيونية، يضم أكاديميين وقانونيين وسياسيين ومفكرين وعلماء وفنانين. كما يضم حركات شبابية ينتظم بين صفوفها طلاب يهود في كل أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا والعالم، تتبنى شعارات ترفض زعم إسرائيل بأنها تمثل يهود العالم، وإنها تتمتع بحق الولاية عليهم لأسباب سياسية وأيديولوجية أو دينية، كما يرفضون أن تمارس إسرائيل سياسة الاغتصاب والقتل والإبادة الجماعية باسمهم. وتدين هذه الحركات بشدة محاولة استخدام قوانين مكافحة العداء للسامية سلاحا لتحصين مجرمي الحرب الإسرائيليين، ضد إصدار أوامر بالقبض عليهم ومحاكمتهم بواسطة محكمة العدل، أو المحكمة الجنائية الدولية. هذا التيار بدأ في التبلور منذ أواخر أكتوبر الماضي عندما وقع 110 من كبار العلماء والمفكرين والأكاديميين والفنانين الألمان رسالة مفتوحة، ترفض قرار الحكومة الألمانية منع الاحتجاجات المناصرة للمقاومة الفلسطينية. ثم اتخذ التيار أشكالا تنظيمية واسعة النطاق على المستوى القومي في الولايات المتحدة، من خلال فيدرالية للتعبير عن «الحراك الطلابي من أجل العدالة في فلسطين»، ومنظمات اليسار اليهودي المعادي للصهيونية. وتسهم هذه الحركات الاحتجاجية في زيادة الضغط على القوى المؤيدة لإسرائيل، خصوصا تلك التي تزودها بالأسلحة، وعلى رأسها الولايات المتحدة. هذا الضغط أسفر في الأيام الأخيرة عن تعزيز قوة الشعارات الرئيسية التي تتردد في العالم: وقف التسليح، ووقف الحرب، وإنهاء الحصار، وعودة سكان غزة النازحين إلى مساكنهم، والدعوة لمحاكمة قادة إسرائيل بتهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية، والمقاطعة الاقتصادية. وسط كل ذلك لن تستطيع إسرائيل تهجير الفلسطينيين من غزة، ولا طردهم من الضفة الغربية والقدس الشرقية. لن تكون هناك نكبة ثانية، بل إن النصر مقبل في الطريق إلى دولة فلسطينية مستقلة آمنة غير منقوصة السيادة.
كاتب مصري