ما من شاعر عربي سارت بذكره الركبان، وتردد ذكره على الألسنة، وتمثل بشعره الناس مثل المتنبي، وقد كانت شهرته مصدر قلق لخصومه وحساده، حتى إن أحد الخصوم حلف لا يقيم في بلد يذكر فيه اسم الشاعر، فلما كان ببعض بلاد الترك اطمأن إلى أن الناس لا تذكر اسم المتنبي، ولا تتمثل بشعره، فكان أن قصد المسجد في أحد أيام الجمعة وإذا بالخطيب في معرض ذكر بعض أسماء الله الحسنى يتمثل بقول المتنبي:
أساميا لم تزده معرفة
وإنما لذة ذكرناهـــــا
ومع كراهة الاستشهاد بالشعر في الخطبة، إلا أن الخطيب وبتأثير من شعر المتنبي عليه راح يتمثل ببيت شعر له، ما أوقع الهارب من شهرته في مأزق جديد. وفي عصرنا الحديث ظل المتنبي كما كان قديما مالئ الدنيا وشاغل الناس، وتعددت المؤلفات التي تتناول حياته وشرح ديوانه، وعادت فكرة علويّة الشاعر تشغل الدارسين من جديد، فهذا طه حسين في كتابه عن المتنبي، يزعم أن الشاعر علوي مجهول النسب، وقد لازمته طول حياته عقدة النسب، وأنه تحول إلى داعية قرمطي، الكتاب الذي أغضب تلميذه محمود شاكر، فردّ عليه بكتاب كامل لم ينكر فيه العلويّة، بل أكد أن المتنبي من كبار العلوية وأشرافهم، وكذلك الشأن مع عمر فروخ والشاعر البحريني إبراهيم العريض، الذي اشتط في الرأي، فزعم أن الإمام محمد المهدي الإمام الثاني عشر عند الشيعة الإمامية هو والد المتنبي، وكان الكاتب العراقي عبد الغني الملاح قد أخرج كتابا جعل عنوانه فيه شيء من الإثارة والغرابة «المتنبي يسترد أباه» زعم فيه كذلك أن الإمام محمد المهدي الذي ولد عام 255 هـ، أو 256هـ واختفى طفلا وكان عمره خمس سنوات واستمر بعيدا عن الأنظار في غيبة صغرى دامت 69 عاما، وصحب هذه الغيبة أربعة وكلاء هم الصلة بينه وبين القضية الكبرى، وانتهت هذه الغيبة عام 329 هو والد المتنبي، حرص ذووه على نشأته كما حرص هو على كتمان نسبه تحت ضغط الظروف التاريخية التي أحاطت به وبالحركة الشيعية التي يرتبط بها.
حظي كتاب الملاح ونظريته هذه بتأييد من بعض الكتاب، لجرأة الطرح والأدلة التي ساقها، فهذا وديع فلسطين يثني على الكتاب، وهذا الكاتب صلاح خالص يكتب إليه (فإن نظريتك القيمة هذه ستدرس وتدرّس وستؤدي إلى شرح جديد لديوان المتنبي قد لا يرضي بعض المتنطعين لكنه يرضي العقل والمنطق).
وتأتي أهمية الكتاب في كونه دعم آراءه بشهادات من لدن بعض الكتاب العلويين ، فالشاعر النصيري العراقي رشدي العامل، يؤكد للكاتب أن النصيرية يحتفلون سنويا بذكرى ميلاد المتنبي في طقوس خاصة، والشاعر بدوي الجبل يقر بأن العلويين يحفظون ديوان المتنبي بتوجيه من آبائهم وأجدادهم، وقد كتب مجيد حمد النجار في كتابه Islam Jafari Rules إن هناك فرقا كثيرة من الشيعة ينزلون المتنبي منزلة الإمام غير المعصوم. ومن المعلوم أن الطائفة النصيرية قالت بوجود الإمام الثالث عشر غير المعصوم، وقد فند الطوسي هذه الدعوة .
المتنبي بقدر ما هو مشهور لا تخفى علينا دقائق حياته التي حفظناها عن ظهر قلب، فهو مالئ الدنيا وشاغل الناس تحيط به كذلك أسرار كثيرة وتضارب أقوال كثيرة، ففي نسبه تضاربت الأقوال بين (أحمد بن الحسن، أحمد بن محمد) وفي مخطوط المنتظم لابن الجوزي في آيا صوفيا كتب نسبه هكذا (أحمد ابن… بن الحسن) وفي طبعة حيدر آباد وضعوا مكان النقاط كلمة الحسين. وفي وفاة المتنبي تضاربت الروايات كذلك منها رواية الثعالبي ورواية أخرى تحيل الأمر على مؤامرة سياسية، فضلا عن الرواية المشهورة التي تجعل الوفاة قتلا على يد فاتك بن أبي جهل الأسدي، انتقاما لأبيه ضبة الذي هجاه المتنبي هجاء مقذعا، وعرّض بأمه أحط تعريض، وقد قتل مع ابنه محسّد وغلامه مفلح سنة 354 هـ. وفي ادعائه النبوة تضاربت الآراء كذلك بين متشكك كالمعري، الذي لا يفصله عن المتنبي سوى تسع سنين، والمثبت والمنكر، وأول المنكرين الشاعر نفسه الذي أكد كلما سئل عن هذا اللقب (المتنبي) قال إنما هو من النبوة أي المرتفع من الأرض، الذي يحيل على الشموخ والارتفاع والتعالي .وفي زمن المتنبي ظهر متنبئ آخر هو أحمد بن عبد الرحيم الأصبهاني في بادية السماوة، وكان يعرف بأحمد المتنبي، فاختلط الأمر على الناس وألصقوا دعوى ادعاء النبوة بالشاعر المتنبي، إنما المرجح أن الشاعر في شبابه الباكر ادعى الإمامة والحق العلوي، ما تسبب في سجنه وفي ديوانه ما يساعد على هذه القراءة:
سأطلب حقي بالقنا ومشايــخ
كأنهم من طول ما التثموا مرد
ثقال إذا لاقوا، خفاف إذا دعوا
قليل إذا عدوا، كثير إذا شدوا
فالنبوة ليست حقا والإمارة كذلك، بينما الإمامة هي حق، إذا كان الشاعر حقا علويا، ومن كبار العلوية وأشرافهم. إن فكرة علوية الشاعر تجعل قراءة الديوان وتأويل مشكل معانيه والملتبس والمضمر من المعاني قراءة جديدة منفتحة على تأويل جديد ومعانٍ بكر ليست بالقراءة الكلاسيكية والشروح القديمة التي لا تتعدى إعادة قول ما قيل، ومن أمثلة ذلك قول الشاعر:
وإني لمن قوم كأن نفوسهـــــــم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
فهل لو كان الشاعر مغمور النسب، ومن أسرة كادحة يجرؤ على قول هذا أمام مترصديه من الحاسدين والمغرضين والشانئين؟ ومن المعروف أن بعض كتب التراث أشارت إشارات سريعة إلى علوية الشاعر، وهي وحدها التي تفسر هذا التعالي ومعانقة المطلق والشموخ والنرجسية التي كانت مصدر قلق للخصوم والمحببة عند عاشقي شعره وسيرة حياته، فهذا القاموس المحيط للفيروز أبادي في شرحه لكلمة «عود» ينص بالحرف (إن عيدان السّقاء بالكسر كانت لقبا لوالد المتنبي) وفي تاج العروس للزبيدي (وعيدان السّقاء بالكسر لقب والد الإمام أبي الطيب أحمد بن الحسين بن عبد الصمد المتنبي الكوفي الشاعر المشهور) وكانت تشبّه ساقاه بالعيدان لدقتهما ونحافتهما، فما الذي جعل صاحب «تاج العروس» يقول الإمام؟ إن الفحولة الشعرية لا تتطلب كلمة الإمام. والمرجح أن عيدان السّقاء الذي هو والد المتنبي كان شيخا، وأقرب الآراء أنه كان جده الذي كفله مع جدته التي كانت تحبه ورثاها المتنبي أفجع رثاء وكلاهما علويان .
ولم تحدث دعوى غمز المتنبي في نسبه حسب النظرية الجديدة القديمة إلا عام 352 هـ،أي قبل وفاة المتنبي بسنتين وأن الوزير المهلبي هو الذي ألب عليه الشعراء لهجوه والتعريض به وبنسبه، فتحولت بالتصحيف عيدان إلى عبدان والسّقاء بالكسر إلى السقّاء بالفتح إمعانا في النيل من الشاعر بتحقير نسبه وتبارى الشعراء في هجاء المتنبي وتعييره بنسبه كونه ابنا لسقّاء حتى قال المتنبي:
أرى المتشاعرين غروا بذمي
ومن ذا يحمل الداء العضالا؟
ومن يكن ذا فم مر مريـــض
يجد مرا به الماء الـــــــزلالا
إن هذه الأنا المتغطرسة والنرجسية الكبيرة التي وسمت حياة الشاعر وشعره كان رديفها كذلك التحقير للناس والتصغير لهم ولشأنهم، شعراء ورجال سياسية ودين ووجهاء أوليس هو القائل:
أذم إلى هذا الزمان أهيلـــه
فأعلمهم فدم، وأحزمهم وغد
وأكرمهم كلب، وأبصرهم عم
وأسهدهم فهد، وأشجعهم قرد
ولا تعني علوية المتنبي- التي تتيح قراءة مغايرة لديوانه وخروجا عن المألوف والسائد- تشيعه فالمعروف عنه أنه كان متألها يرى نفسه فوق الناس، فكل ما خلق الله وما لم يخلق، مستصغر محتقر كشعرة في مفرقه كما قال، والمعروف عنه كذلك قلة احتفائه بالدين وقلة توقيره للرسل والأنبياء ـ وقد شبه نفسه بهم- والثابت أنه كان لا يصلي ولا يصوم ولا يزكي، ولربما كان قريبا في إيمانه بالله من مذهب أرسطو الذي يرى أن الله خلق العالم وأدار له ظهره، أو مذهب سبينوزا الذي يرى أن الله خلق العالم وأسلمه إلى قوانينه الصارمة، نافضا يديه من شؤون البشر وكان هذا مذهب أينشتاين وكثير من العلماء والفلاسفة، ولهذا يلاحظ القارئ لشعره ضعف الوازع الديني عنده واستعاض عن ذلك بشيء من فلسفة اليونان وحكمة العرب وتجاربه الشخصية وأصالته الفكرية، وهو من الشعراء الذين عمقوا النزعة الفردية، فقد كان مؤمنا بأصالة الفرد في مواجهة المجموع، مستعيرا من الطبيعة مبدأ تنازع البقاء والبقاء للأصلح، وألح هو على القوة بمختلف تمظهراتها، كسند للمرء في الحياة، ويا للعجب إن الأمة التي تمتلك شاعرا بحجم المتنبي كغثاء السيل يوشك أن تداعى عليها الأمم كتداعي الأكلة إلى قصعتها! وهو كذلك قليل الثقة بالجماعة وطالما نعتها بالقطيع (الغنم) يأتمر بأمر رعاته من ساسة وكهان ووعاظ، وتفنن في طرائق الحط من قدر الجماعة بالتصغير تارة والتشبيهات الساخرة أو المقذعة، وقد وجد فيه كل طامح إلى المعالي أو ناقم على الواقع والناس ملاذا فهو شاعر كل الأزمنة وكل العصور.
كاتب جزائري