لعله أسوأ أيام التاريخ العربي الحديث، فكيان الاحتلال الإسرائيلي يحتفل في 15 مايو من كل عام بما يسمونه «يوم الاستقلال»، والإشارة بالطبع إلى يوم النكبة الفلسطينية في 15 مايو 1948، وكأن المعاني انقلبت على أعقابها، وصار الاحتلال هو عينه الاستقلال، والأعجب أنهم يصورون للناس، أنهم كانوا هنا قبل عشرات القرون، وأنهم أقاموا في الزمن السحيق ممالك بادت، وكأن الممالك المندثرة تبتعث من القبور، وقد قامت في فلسطين وإلى شرقها عشرات الممالك، لكن اتصال الوجود السكاني والحضاري كان للعرب بامتياز، من عهود اليبوسيين والكنعانيين إلى الفلسطينيين المحدثين.
الكيان الإسرائيلي، الذي تغنوا بتفوقه الاقتصادي والصناعي والتكنولوجي وريادته الحربية، أثبتت الحوادث المزلزلة، أنه لا يقوى على حماية نفسه ذاتيا، وأنه قاعدة برية وحاملة طائرات للإمبريالية الأمريكية
ولم يكن الوجود اليهودي السياسي غير حدث عابر، ولم تدم مملكة اليهود الأولى (مملكة داود وسليمان) من حول القدس، ثم مملكة اليهود الثانية (الحشمونيين) في بعض مناطق الضفة الغربية اليوم، لم تدم أي من المملكتين الصغيرتين سوى نحو ثمانية عقود، ثم كان الفناء المتسارع، الذي يسميه جنرالات ومفكرون إسرائيليون اليوم بخطر العقد الثامن، ويتخوفون من أن تنتهي إسرائيل (الموصوفة عندهم بمملكة اليهود الثالثة) قبل أن تكمل عامها الثمانين، وهي اليوم دخلت توا إلى عامها السابع والسبعين.
وبعيدا عن الخرافات والأساطير المصنوعة، وحتى عن التفاسير الدينية المعتبرة، فلا تبدو دولة الكيان مرشحة لإكمال المئة سنة، ولأسباب واقعية وتاريخية ملموسة، تدافعت إشاراتها حتى في الاحتفال الأخير للكيان بيوم استقلاله، فقد جرت طقوس الاحتفال على نحو شبه سري ومسجل مسبقا، وجرى إيقاد شعلات «الاستقلال» من غير بث مباشر، والسبب ـ كما قيل ـ كان أمنيا، فقد خافوا من الوقوع في الحرج، وأن تبدد صواريخ «حزب الله» وصواريخ غزة فرحة المحتفلين، وهو ما حدث بالفعل في مستعمرة سديروت بغلاف غزة، فقد جاءها المحتفلون أسرابا في ما يشبه العرض الراقص، وفاجأتهم صواريخ «حماس» فانبطحوا أرضا، وبدت الإشارة رمزية بليغة، تعيد للأذهان ما تخوف منه الجنرال إيهود باراك في مقال نشره قبل سنتين في المناسبة ذاتها «الاستقلالية»، وباراك ـ كما هو معروف ـ رئيس وزراء ووزير حرب إسرائيلي سابق، ومعروف بأدواره البارزة في عمليات اغتيال كبرى لقادة كبار في منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد سنوات وعقود الخدمة الممتدة للخرافات الصهيونية، كان مقاله المذكور يحذر من لعنة العقد الثامن، ويتخوف من النهاية القريبة لدولة الكيان الإسرائيلي، لكن باراك لم يتصور، حتى في أسوأ كوابيسه، أن يعيش ليرى هجوم حماس المزلزل صباح 7 أكتوبر 2023، وما كشفه الهجوم من خواء الترتيبات العسكرية والاستخباراتية لكيان الاحتلال، ومن التطور الملحمي لعقول وعبقرية قتال حركة التحرير الفلسطيني، وقد أطاحت مئات من مقاتليها في غمضة عين بتحصينات الكيان الإسرائيلي، الذي صوروه طويلا كأعظم معجزة من صنع الإنسان، وتغنوا بتفوقه الاقتصادي والصناعي والتكنولوجي وريادته الحربية، ثم جاءت الحوادث المزلزلة، وأثبتت بجلاء، أن الكيان (المعجز!) لا يقوى على حماية نفسه ذاتيا، وأنه مجرد كيان طفيلي وظيفي، وقاعدة برية وحاملة طائرات للإمبريالية الأمريكية، وبان ذلك كله جليا في حرب غزة المتصلة إلى قلب شهرها الثامن اليوم، مع عجز الآلة العسكرية الأمريكية ـ من وراء القناع الإسرائيلي ـ عن هزيمة حركة حماس وأخواتها في شريط غزة بالغ الضيق جغرافيا، رغم نحو مئة ألف طن من المتفجرات ألقيت على رأس سكان غزة، قتلت وجرحت نحو 130 ألف فلسطيني إلى اليوم، ومن دون أن ترفع غزة الصغيرة راية بيضاء، ولا أن يخطر ببال قوات المقاومة إعلان استسلام، وهو ما دفع وزراء وسياسيون أمريكيون وإسرائيليون إلى المطالبة بضرب غزة بالقنابل الذرية، كان آخرهم قبل أيام السيناتور الجمهورى البارز ليندسى غراهام (وهو يهودي صهيوني)، وكان أولهم في نوفمبر الماضي الوزير الإسرائيلي المعتوه «عميحاي إلياهو، إضافة لأعضاء آخرين في الكونغرس الأمريكي والكنيست الإسرائيلي، وكلهم تصوروا أنه لا حل آخر غير القنابل الذرية، تماما كما فعلت أمريكا في قصف هيروشيما ونجازاكى اليابانيتين بالقنابل الذرية، مع أن ما ألقي فوق رأس غزة يفوق القدرة التدميرية لقنابل دمار هيروشيما ونجازاكى، ومع أن لجوء إسرائيل وأمريكا لضرب غزة نوويا، يعود بالدمار على سكان الكيان بأسباب الالتصاق الجغرافي، ويعرف المأفونون المنادون بالضربة النووية ذلك، لكنهم لم يجدوا وسيلة أخرى، يعبرون بها عن اليأس من إمكانية دحر المقاومة، التي لا تملك واحدا على المليون من ترسانات سلاح العدو الأمريكي الإسرائيلي، ويحاربون بعقيدة قتال استشهادي، وبأسلحة فعالة من صنع أيديهم، وعبر حطام المباني وشبكة الأنفاق المذهلة، وأذاقوا جيش الاحتلال ألوانا من العذاب والهزائم الثقيلة، في معارك الأكمنة والألغام والقتال وجها لوجه، ودفعوا ويدفعون أعدادا متزايدة من ضباط وجنود النخبة الإسرائيلية، إلى تفضيل الانتحار على قتال المقاومين الفلسطينيين، وقد وثقت الصحف الإسرائيلية تفاصيل انتحار عشرة منهم، بينما زادت معدلات الرعب في أوساط التجمع الإسرائيلي، مع نزوح مئات آلاف الإسرائيليين خوفا من صواريخ غزة و»حزب الله»، وفي استطلاع رأي أجرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» قبل أيام، عبر ثلث الإسرائيليين عن فزعهم من مصائر إسرائيل، وقالوا إنهم يتوقعون ألا تكون إسرائيل مكانا مناسبا ولا آمنا لإقامة وتربية الأبناء والأحفاد، وهو ما يتوازى مع تضاعف معدلات هجرة اليهود العكسية بعد هجوم السابع من أكتوبر، ومع تقلص الممكنات الواقعية لاستدامة بعث الحلم الصهيوني وازدهار وتوسع ملك إسرائيل، التي لم تنتصر أبدا في أي حرب دخلتها منذ 1967، فقد هزمت في حرب الاستنزاف الطويلة المتقطعة على جبهة قناة السويس، ثم هزمت في حرب أكتوبر 1973، وفي حرب غزو لبنان، وفي حرب 2006 مع «حزب الله»، وفي حروب خمس شنتها ضد مقاومة غزة منفردة، أي أن الهزائم صارت قدر إسرائيل المكتوب، رغم خروج الأنظمة العربية والنظام المصري بالذات من ساحة الحرب، وركونها إلى «خيار السلام» المزعوم مقابل عودة سيناء، وكانت تشكل ثلاثة أرباع مساحات الأراضى العربية المحتلة إسرائيليا في عدوان 1967، ورغم سكوت المدافع طويل الأمد، إلا أن خيار السلام ـ إياه ـ يهتز الآن، وهزائم إسرائيل المتصلة، قد تغري البعض بالعودة إلى محاربتها، إن لم يكن في الحال ففي الاستقبال، خصوصا بعد فشل حملة «الأرمادا» العسكرية الأمريكية الإسرائيلية في غزة، وتصاعد أدوار حركات المقاومة من نوع مختلف، التي تكونت صيغتها الأولى في جنوب لبنان قبل تحريره، وواجهت تكنولوجيا العدو الحربية الفائقة بثقافة الحس الاستشهادي الباهر، ثم أضافت إلى استشهاديتها تكنولوجيا متحدية، بدت متواضعة ثم تطورت، وعلى نحو قاد إلى استبدال الصور في الميدان، فقد سقطت خرافة جيش إسرائيل الذي لا يقهر، وحلت محلها صورة المقاومة التي لا تهزم، وعلى نحو ما جرى ويجري في حرب غزة الراهنة، وهي أطول صدام متصل بالنار الموقدة مع الكيان الاستيطاني الاحتلالي، الذي تلقى آخر جرعة حياة بهجرة المليون يهودي ومتهود من موسكو، أوائل تسعينيات القرن العشرين، ثم جفت الصنابير إلا قليلا، وزادت معدلات الهجرة العكسية، مع انفضاح كذب الرواية الصهيونية في عقر دارها الغربي، والصعود الإعجازي للرواية الفلسطينية في العواصم الغربية، وتدفق مظاهرات وانتفاضات الملايين داخل الجامعات وخارجها، والانتصار غير المسبوق لسردية الكفاح الفلسطيني لا الاستقلال اليهودي المزعوم، وكان الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني ومقاومته هو حجر الزاوية في المعجزة المرئية، التي أسقطت أو كادت خرافة استعادة ممالك اليهود القديمة، فوق انكشاف حقيقة أن يهود اليوم لا علاقة لهم بيهود التوراة ولا «الحشمونيين»، وأن أغلبهم الساحق من نسل «مملكة الخزر» القروسطية، وهؤلاء لم يكونوا يهودا، بل تهودوا بأمر ملكهم، ولم يعد من اليهود «السامريين» غير بضع مئات في إحدى قرى نابلس، وهؤلاء لا يعترفون بالصهيونية ولا بمزاعمها الإسرائيلية»، فيما يوالي الفلسطينيون حضورهم الأغنى فوق أرضهم المقدسة بكاملها، ويزيدون اليوم على عدد اليهود المجلوبين لاحتلال واستيطان فلسطين، وفي آخر إحصاء إسرائيلي نشر قبل أيام، لا يزيد عدد اليهود اليوم في فلسطين على سبعة ملايين وثلاثمئة ألف، مع ملاحظة أن أعدادا هائلة منهم لم تعد تقيم في فلسطين، وأن نصف الإسرائيليين تقريبا يحملون جنسيات مزدوجة، ما يعني ببساطة، أن مد البصر على استقامته إلى أخريات عقدين مقبلين، يكشف أن النجوم تعود حثيثا إلى مداراتها، وأن فلسطين التاريخية تعود وطنا بأغلبية فلسطينية عربية متكاثرة، وأن إسرائيل ـ كما نعرفها ـ لن تكمل عامها المئة، وهي تمضى إلى نكبتها الأخيرة.
كاتب مصري