ربما توحي كلمة بين زمنين أنني سأنحاز للماضي، هذا حقيقي في جوانب كثيرة من الحياة الاقتصادية والسياسية لن يشغلني هنا، فما أكثر ما كتبت عنه، لكني سأكتب عن نجوم السينما. هل حقا زمننا أقل جمالا من قبل؟ كل الصور التي على السوشيال ميديا لنجوم الماضي مثل، أسمهان وليلى مراد وفاتن حمامة وشادية وهدى سلطان وصباح وتحية كاريوكا وسامية جمال ونعيمة عاكف ومريم فخر الدين ولبنى عبد العزيز وزبيدة ثروت وسعاد حسني ونادية لطفي ونجلاء فتحي ومرفت أمين وغيرهن. وكذلك نجيب الريحاني ويوسف وهبي وأنور وجدي وعمر الشريف وشكري سرحان وأحمد رمزي وأحمد مظهر وعماد حمدي ورشدي أباظة وفريد شوقي ومحمود المليجي وزكي رستم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ومحمود مرسي ومحمود ياسين ونور الشريف ومحمود عبد العزيز ومن تشاء ممن عبروا علي بلادنا، أو لا يزالون بيننا مثل حسين فهمي وعادل إمام.
كذلك المخرجون مثل هنري بركات وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين وفطين عبد الوهاب وأحمد بدرخان وسعد عرفة وحسن الأمام، حتى نصل إلى رأفت الميهي وسمير سيف وأشرف فهمي، ثم داود عبد السيد وخيري بشارة وغيرهم. وكذلك كتاب الأفلام والمسلسلات مثل أبو السعود الإبياري ويوسف جوهر وحلمي حليم وعبد الحي أديب ويوسف عيسى وممدوح الليثي وسعد الدين وهبة، ثم أسماء رائعة تالية مثل بشير الديك وأسامة أنور عكاشة ووحيد حامد ورؤوف توفيق ومحمود أبو زيد وغيرهم. أولئك الذين جعلوا مصر حاضرة في كل العالم العربي بشكل يحبه الجميع، ولا يختلفون عليه كما يختلفون في السياسة، بل جعلوا لغتنا الدارجة معروفة جدا في كل البلاد العربية من حوارات الأفلام أو الأغاني. وحين تسافر إلى بلد عربي وتقابل الناس في الشوارع أو المقاهي يسألونك عن الفنانين لا السياسيين. هؤلاء لا يختلف عليهم أحد الآن، وإن كان النقد السينمائي من قبل قد اختلف على بعضهم وظلمه ظلما شديدا مثل حسن الإمام، الذي اعتبروه مجرد مخرج ميلودراما أو مخرج للعوالم، بينما بناء الفيلم فيه من براعة الفن السينمائي في المونتاج، وتتابع المشاهد مثلا، ما يفتح العقل والروح على معانٍ رائعة. تظل حكايات هؤلاء وغيرهم ممن ضاق المقال عن ذكر أسمائهم، وأعني الحكايات المعروفة وغير المعروفة، زاداً لمن يريد الدراسة والمعرفة، وزاداً لمن يعرف أيضا، فهو لا يمل من رؤية أفلامهم مهما تكررت إذاعتها على القنوات المختلفة عربية أو مصرية.
لكن السؤال هو، هل زمننا ليس بقدر الجمال الذي مضي؟ كل ما ينشر عن أفلام الماضي يحمل عنوان الزمن الجميل. قد يرى البعض جمال ذلك الزمن في القدرات التمثيلية، وقد يراه البعض في موضوعات الأفلام والمسلسلات وجرأتها. هذه حقيقة. لكن الحقيقة أيضا أن في زمننا هذا ممثلين وممثلات لا يقلون في قدراتهم عن أيقونات الماضي. وخذ مثلا أسماء مثل فتحي عبد الوهاب الذي رأيته ممثلا رائعا على خشبة المسرح في مسرحية مثل «هاملت» وغيرها، ثم صار نجما للسينما والتلفزيون. وخالد النبوي وآسر ياسين وطارق لطفي وماجد الكدواني وأحمد السقا ورامز جلال وعمرو سعد وأحمد عز وكريم عبد العزيز، وكذلك ممثلات مثل غادة عبد الرازق ومِنَّه شلبي ومُنى زكي وحنان مطاوع وصفاء عامر ويسرا اللوزي وأمينة خليل ورحمة أحمد فرج وحلا شيحة وهنا شيحة ومي عز الدين ونيللي كريم الباليرينا في مسرح الأوبرا، التي قدمت كثيرا من الباليهات العالمية على أنغام الموسيقى الكلاسيكية، والتي كثيرا ما رأيتها أو حرصت على رؤيتها وقتها. وكلهن من بعد جيل يسرا وإلهام شاهين، وهناك غيرهن طبعا، وغير من ذكرتهم من الرجال. إذن ما الذي يجعلنا نقول عن الماضي إنه الزمن الجميل كأنه لا يوجد جمال حولنا. النوستالجيا أو الحنين طبعا، لكن الحقيقة الغائبة هي أننا لم نعد نتتج أفلاما بقدر إنتاجنا القديم. ما يتم إنتاجه كل عام هو تقريبا ربع ما كان ينتج من قبل، أو في أحسن الحالات ثلثه في العدد.. ليس لقلة الكتاب ولا المنتجين ولا المخرجين ولا الممثلين، ولا أي من صناع السينما مثل، الموسيقيين والمصورين، لكنه من احتكار الإنتاج لشركة واحدة، حتى إذا انتجت بعيدا عنها، فلا يتم الإنتاج بسهولة، دون أن تشركها فيه وفي توزيع الفيلم أو المسلسل.
لن يستطيع كاتب أو منتج أن يظهر لنا فيلما عن السجون أو الاعتقال والتعذيب، لأن الفكرة السائدة هي أن مثل هذه الأفلام تشجع المشاهدين على كره الحكام، والحقيقة أن الذي يصنع ثورة، أو انتفاضة هو، الفقر وانعدام الديمقراطية.
كذلك لتغير الزمن وقلة عدد السينمات بشكل رهيب، ففي الإسكندرية مثلا تم اختفاء ما يصل إلى خمسين سينما، وفي القاهرة أكثر، وقد مرّ ذلك بمرحلتين. الأولى منذ نهاية السبعينيات، وكانت من أثر تحالف النظام الحاكم مع الجماعات الدينية، التي رأت الفن حراما، فتقدم كثير من رجال أعمالهم لشراء السينمات وهدمها، وبناء عمارة مكانها، أو ورشة صناعية، أو صالة أفراح، فضلا عن أن فكرة حُرمة الفن جعلت بعض الفنانين يعتزلون مبكرا، وبعض الفنانات كذلك، حتى إن بعضهم حاول إخفاء أفلامه القديمة أو تبرأ منها. بعيدا عن هذا التحول الذي عاشه أبناء جيلي، فهناك تحول آخر في العالم مع الثورة الرقمية، وهو ظهور منصات لعرض الأفلام والمسلسلات، فلم يعد الفرد في حاجة إلى سينما يذهب إليها، بل يمكن أن يرى ما يريد من خلال اللاب توب أو الموبايل، ومن ثم قلّ الإقبال على السينمات الباقية. انتهى تقريبا يوم الذهاب إلى السينما الذي كان أحد مظاهر الاحتفالات والبهجة، خاصة إذا ذهب الأزواج معا، أو أحدهما مع أطفاله، أو حتى الشباب مع الأصدقاء، كما انتهت قاعة السينما كملاذ مؤقت للأحباء يدخلون الفيلم معا، ويجلسون طبعا جوار بعضهم. أنا طبعا من الجيل الذي صارت النوستالجيا له احتياجا حقيقيا، لكنني أتابع ما يتم إنتاجه وإخراجه من أفلام، وإن قلت قدرتي منذ ثلاثة أعوام، وأستطيع أن أقول إن لدينا فنانات وفنانين لا يقلون عن نجوم العصر الذهبي، أو الأيام الذهبية كما يقال، بل يمثلون أيقونات رائعة.
لو انتقلت إلى الإخراج السينمائي فتستطيع أن تقول إن لدينا الآن مخرجين لا يقلون عمن ذكرت بعض أسمائهم. مخرجون معاصرون من مختلف الإعمار، يقدمون أعمالا رائعة في السينما أو التلفزيون مثل، مجدي أحمد علي وخالد يوسف وأحمد عواض وأحمد مكي متعدد المواهب بين الإخراج والكتابة والتمثيل، وخالد الحجر ومحمد ياسين وشريف عرفة وعلي إدريس وعمرو عرفة وعماد البهات وهاني خليفة ومحمد حفظي وبيتر ميمي ومحمد شاكر خضير وخالد دياب ومرقس عادل ومروان حامد وإسلام خيري وكريم العدل ومحمد جمال العدل وأمير رمسيس وكاملة أبو ذكري وهالة جلال وشيرين عادل ونادين خان وسارة وفيق وغيرهم. لن يتسع المقال لأسماء رائعة من كتاب السيناريو بينهم من يجد فرصته في هذه الجو من الإنتاج القليل، وبينهم من يعاني حتى يأتيه الحظ. الأهم من الإنتاج القليل هو ضيق مساحة الحرية في الكتابة، أو في الجرأة على كثر المألوف، أو دخول خيمة الحظر من الموضوعات ذات المعاني السياسية، حتى لو من بعيد.
لن يستطيع كاتب أو منتج أن يظهر لنا فيلما عن السجون أو الاعتقال والتعذيب، لأن الفكرة السائدة هي أن مثل هذه الأفلام تشجع المشاهدين علي كره الحكام، والحقيقة أن الذي يصنع ثورة، أو انتفاضة هو، الفقر وانعدام الديمقراطية. إنها أفلام تمتع المشاهد غنيا أو فقيرا، لما فيها من صدق وتمثيل وإخراج ومتعة رغم الآلام. الملايين شاهدوا هذه الأفلام ولم يخرجوا من السينما إلى الميادين، والملايين شاهدوا أفلام محمود المليجي ولم يصيروا شريرين مثله، الذي يصنع الأشرار هو المجتمع نفسه بما فيه من تفاوت طبقي وفقر مثل أي جريمة وليس الفن. وأحب أن أعود إلى البداية، فبعيدا عن الحنين، لدينا ممثلون وكتاب ومخرجون ومؤلفون وصناع سينما رائعون مثل أي زمن، رغم قلة الأفلام والمسلسلات ويستحقون شاشات عالمية، فمتى تتسع المساحة لمواهب تملأ الفضاء.
كاتب مصري