السنغال الجديدة

الخبر، الذي تناقلته بعض وسائل الإعلام، والذي يفيد باستبدال اللغة الفرنسية باللغة العربية في السنغال، وجعلها لغة رسمية بعد تولي الرئيس الجديد بشير أو باسيرو فاي الرئاسة، لم يكن دقيقاً. مع ذلك فإننا نقول إن مجرد طرح هذه القضية للنقاش بالتزامن مع إنشاء قسم خاص للغة العربية في ديوان الرئاسة، يعبر عن مدى التغيير، الذي تعيشه السنغال حالياً.
قضية «الاستبدال اللغوي» معقدة، ليس فقط لأنها تحتاج لتدابير دستورية وللحصول على موافقة شعبية، من أجل أن تكون في موضع التنفيذ، ولكن لأنها سوف تكون أشبه بانقلاب ثقافي، وانسحاب من المنظومة الفرانكفونية، التي كانت السنغال، إحدى أهم أعمدتها.

تسير القيادة الجديدة في السنغال بخطوات حذرة، فهي، ومع مساعيها لإحداث اختراق، وكسب الاحترام عبر سياسة خارجية مبنية على الكرامة، لا تتحمل الدخول في صدام مباشر مع أي طرف

الشابان بشير فاي ورئيس وزرائه عثمان سونكو ينظر إليهما كممثلين للاتجاه المناوئ للمظلة الفرنسية. الرئيس السابق ماكي سال حاول فعل ما بوسعه من أجل تثبيت نفسه في الحكم وعرقلة الانتخابات، أو على الأقل هندستها، بحيث يتم استبعاد ممثلي هذا التيار الثوري. ذلك التيار كان يقدم خطاباً يخاطب العواطف ويتمحور حول أهمية مراجعة العلاقة مع القوى الغربية، وعلى رأسها فرنسا، التي تميزت علاقتها بالسنغال، كما غيرها من مستعمراتها السابقة، بالكثير من الاستغلال. دخل فاي القصر الرئاسي برفقة زوجتين، فكان في تلك الصورة الرمزية، أبلغ رسالة لحماة القيم الغربية، من الذين يرون في تعدد الزوجات جريمة، ثم اكتمل المشهد بوجود عثمان سونكو، المعتقل السابق، الذي كان قد دخل في تحدٍ مع الرئيس السابق سال، الذي كان مُنع في عهده من دخول السباق الرئاسي.
بالعودة إلى موضوع اللغة، نذكر أن اللغة المحلية الأكثر انتشاراً في السنغال هي «الوولوف». من ناحية المنطق، واستصحاب كون أن البلد بغالبية مسلمة، فإن اللغة العربية كانت تستحق أن تكون اللغة الأجنبية الأولى. هذا لم يحدث بالطبع، على الرغم من أن السنغال ظلت مرتبطة بالجوار العربي. اليوم يجيد قليل من السنغاليين، حتى المداومين منهم على قراءة القرآن، اللغة العربية. المستعمر، الذي كان مشغولاً بطمس الهوية، لم يكتف بمحاربة الدين الإسلامي وعلمائه، وإنما امتد أثره لفرض اللغة الفرنسية، التي أصبح الانفكاك منها اليوم صعباً، ما يوضح ما نعنيه بصعوبة الانفكاك حقيقة، أن قيادات التيار، الذي يوصف بأنه مضاد للهيمنة الفرنسية، هم في أغلبهم ممن يجيدون الفرنسية، ولا يتحدثون العربية، بمن فيهم فاي وسونكو، وإن أظهرا اهتماماً بنشر اللغة العربية. تسير القيادة الجديدة في السنغال بخطوات حذرة، فهي، ومع مساعيها لإحداث اختراق، وكسب الاحترام عبر سياسة خارجية مبنية على الكرامة، لا تتحمل الدخول في صدام مباشر مع أي طرف. البلد أبعد ما يكون عن تقليد دول مثل النيجر وبوركينا فاسو ومالي، التي بلغ بها الحال ما يقارب تجميد العلاقة مع فرنسا. السنغال ما تزال مهتمة بكسب ثقة المجتمع الدولي، والحصول على دعمه، إلا أن ذلك لم يمنع سونكو من أن يلمح إلى عزمهم مساءلة القواعد العسكرية الفرنسية، ومراجعة مدى استفادة البلاد منها وتأثير وجودها على السيادة الوطنية. تواجه فاي وحكومته تحديات جمة، في طريقهم غير المعبد هذا، فهناك من جهة فرنسا، التي لن تسمح ببساطة بخروج السنغال، ذات الموقع والموارد المهمة من تحت سيطرتها، فباريس لم يبق لها بعد سلسلة الانتفاضات ضدها في منطقة الساحل سوى الحليفتين تشاد في الشرق، والسنغال في أقصى الغرب.
من جهة أخرى هناك التحدي الداخلي، فالخبرة الافريقية تعلمنا أن الفوز في الانتخابات لا يمثل النهاية دائماً، ولا يقدم ضمانة كافية ضد الانقلابات، خاصة إذا كانت تلك الانقلابات حاصلة على دعم غربي. الحكومة الجديدة تجد الدعم الأكبر من الشباب ومن غيرهم من الفئات الاجتماعية، التي تعرضت للظلم، والتي ترى أن السياسات السابقة، التي كانت تقدم مصالح الغربيين هي السبب في بؤسهم. في المقابل، فإن الحرس القديم والمنتفعين من شكل النظام السابق وتقاطعاته، والمرتبطين بشكل شخصي بفرنسا، ما يزالون هنا، ولا شك في أنهم سيتعاملون بشراسة مع كل محاولة لسحب البساط من تحت أقدامهم. التحدي الثالث هو تحدي دول الجوار القريب أو البعيد من مجموعة ما يمكن أن نطلق عليها الدول التابعة، التي ترى أن دورها يتلخص في حماية المصالح الغربية، وقص أجنحة المنتفضين، وإن كانوا بعيدين عنها جغرافياً. هذه الدول ترى في أي تجربة ديمقراطية ناجحة وأي انتصار لرغبات الشعوب تهديداً لعروشها، لاسيما لو ارتبط ذلك بإغضاب الدول الكبرى، لأن ذلك يقدم تجربة يمكن أن تحتذى مفادها، أن هناك خياراً آخر غير التبعية والاستسلام، وأن بالإمكان اختيار حياة أكثر كرامة.
في محاضرة ألقاها عثمان سونكو الخميس الماضي، في جامعة الشيخ أنتا ديوب في العاصمة داكار، بحضور السياسي الفرنسي جان لوك ميلانشون، تحدث سونكو عن الإلهام، الذي يمكن أن تمثله السنغال بتوجهها الجديد القائم على المطالبة بعلاقات مبنية على الندية. سونكو شن في محاضرته هجوماً على السياسة الفرنسية، التي ما تزال تتعامل وفق المنطق الاستعماري، حسب تعبيره، كما امتد هجومه للرئيس إيمانويل ماكرون. اللافت كان توضيحه أن هذا الرفض للنخبة الكولونيالية الفرنسية لا يعني كراهية الفرنسيين، وأن الحديث عن مشاعر عداء ضد فرنسا هو حديث مضلل، فالشعوب الافريقية تفرق بين الشعب الفرنسي، والسياسيين. حتى إن أولئك السياسيين ليسوا مقصودين بشكل عام حينما يتعلق الأمر بالغضب من السياسات، بقدر ما أن المقصود هو النخبة الحاكمة والمتحكمة في القرار. تحدث سونكو بشكل صريح معبراً عن إدراكه أن الدول الغربية، وعلى رأسها فرنسا، ليست راضية عن تياره السياسي المنتفض، وأنها كانت تشجع الرئيس السابق ماكي سال على المضي في إجراءاته القمعية ضد الناشطين من حزبه، وضد جميع المعارضين الآخرين. من المفارقة، وفق ما ذكر سونكو، أنه وعلى الرغم من وجود الآلاف من ضحايا عنف الدولة ومن المعتقلين السياسيين، إلا أن فرنسا، والاتحاد الأوروبي، لم يحدث أن انتقدوا ماكي سال، الذي كان مقرباً من الرئيس ماكرون. ترك سونكو باب الاحتمالات مفتوحاً، حيث أكد نية حكومته التعاون مع الجميع، بما في ذلك فرنسا، إلا أنه عاد ليؤكد أن ما كان يدعو إليه وهو في المعارضة لن يتغير بعد وصوله إلى الحكم وأنهم لن يسمحوا لأي أحد بفرض سياسات معينة عليهم، لاسيما في الاقتصاد، الذي يمثل أحد أهم تحديات الحكومة. من النقاط المهمة كذلك كانت تعبير سونكو عن رفض سياسة العقوبات والحصار عن دول الساحل، حيث اعتبر أن وجود خلاف سياسي ليس مبرراً لمعاقبة شعب افريقي وعزل دول جارة، كما ذكّر بحقيقة أن الدول الغربية، التي تتذرع بحماية الديمقراطية، أو برفضها للأنظمة العسكرية، سرعان ما تنسى هذه المبادئ، حين يتعلق الأمر بالمصلحة أو بالحصول على نصيب من الطاقة أو الموارد.
السنغال الجديدة، وفق ما كان يدعو إليه تيار سونكو، هي التي سوف تراجع جميع العقود الأجنبية، وهي التي سوف تجمع في بحثها عن الحلول ما بين وقف التدخلات الأجنبية ومحاربة الفاسدين، وهي مهمة ليست سهلة وتصطدم بمصالح جهات عدة في الداخل والخارج.
كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية