الرنّة الخاصة

حجم الخط
0

كان نوعاً من النعمة الشعرية ظهور الشاعر حسب الشيخ جعفر في حياتنا الشعرية، في مطلع سبعينيات القرن الفائت، نعمة لغوية ملونة، لونت المشهد الشعري العراقي في تلك المرحلة الثمينة من تاريخ الشعر العراقي، ومن ثم العربي.
بعد عودته من موسكو، انخرط الشاعر حسب الشيخ جعفر في مشروعه الشعري الخاص، ذلك المتمثل بقول شيء مختلف عمن سبقوه، ذلك أن الساحة الشعرية كانت تغص بالشعراء الداعين إلى التجديد، كفورة جيل الستينيات الشعرية، ودعاواها الكثيرة، الداعية إلى تجديد القصيدة العراقية أولاً، ولاحقاً العربية، فمن هنا ظهر تيار القصيدة البصرية والقصيدة الميكانيكية والقصيدة الكونكريتية، وغيرها من التسميات، وبمجملها كان يصب في سياق الشعر السريالي والدادائي، أو الشعر العبثي الداعي إلى تكسير اللغة وتهشيم البنى البلاغية، وتفتيت القواعد الكلاسيكية المتوارثة. بينما في ظل كل هذه التيارات والأنساق والتشاكيل، كان حسب الشيخ جعفر يخوض غمار تجربته الإبداعية الخاصة، تلك المستمدة في بنائها المتين من تجارب البنى الكلاسيكية المهمة، في مسار الشعر العربي حديثه وجديده، الشعر الكلاسيكي برمته تنضاف إليه تجارب الشعر الحديث المتمثلة بتجربتي السياب والبياتي، وهذا ما ظهر من ظلال سيّابية على تجربة ديوانه الأول «نخلة الله» مع مسوحات موحية ودالة من تجربة البياتي المتّسمة بقوة المعنى الواضح في الشعر، وتحت هذا البند لم تنكص قصيدة حسب منذ بداياتها في الذهاب في اتجاه التغريب والتعمية، أو في الذهاب في اتجاه التجارب الغرائبية، تلك التي ظهر بعضها إبان تصاعد الأنسقة الشكلانية في زمن صعوده الشعري.
بعد ديوان «نخلة الله» الصادر حينها عن دار مرموقة مثل «دار الآداب» البيروتية سنشهد تحوّلات حسب الشيخ جعفر الفنية، بنقل تجربته الخاصة نحو صوته الخاص، الذي كان يعمل عليه، بتؤدة وصمت وهدوء، لتظهر تجاربه اللافتة والمميزة في ديوانه الثاني «الطائر الخشبي» الصادر عن وزارة الثقافة العراقية. انطلاقاً من هذا الديوان سينطلق حسب الشيخ جعفر، في نشيده الدائري، إلى حيث القصيدة المدوّرة، كمدينة بغداد المدورة، ناسجاً غناء تجربته الفريدة في هذا المضمار.
لم تكن القصيدة المدوّرة غريبة عن الشعر العربي، فقد كتبها أدونيس في ديوان «هذا هو اسمي» و يوسف الخال في ديوان «البئر المهجورة» وسعدي يوسف في قصيدته «الألوية الأربعة عشر» لكن جل هؤلاء كتبوها دون أن تكون منهجاً وتؤسس لأسلوب ومدرسة مميزة، فقط حسب الشيخ جعفر من جعل من القصيدة المدوّرة معْلماً ونهجاً سلكه من جاء بعده، وكتبها من كان يعيش في زمنه من بعض رموز الستينيات، وحتى الرواد مثل البياتي في ديوانه «قصائد حب على بوابات العالم السبع» وسامي مهدي في قصيدته «لوبا» وفاضل العزاوي في ديوانه «الشجرة الشرقية» وفوزي كريم في ديوانه «قارات الأوبئة» دون أن يترك عليهم طريقته في الكتابة، أو سمات قصيدته ومنحاها الرعوي حيناً والمديني حيناً آخر، فهؤلاء شعراء متمرّسون ولهم رؤيتهم الخاصة أيضاً إلى الشعر بشكل عام.
لكن الذي تاثّر بتجربة الشاعر حسب الشيخ جعفر بشكل واضح ومتعيّن، هو الشاعر علي الطائي، ما أسبغ على تجربة هذا الشاعر النسق الحسبي الواضح عليها، وليس هذا فحسب، بل امتد هذا التأثير حتى إلى شخصيته في تمثّل سلوك وحركات حسب الحياتية والشخصية، مثل زمّ شفتيه، والجلوس وحيداً، والحَدْب على الكأس بانحناءة واضحة في ترسّم شخصية حسب السلوكية.
بالإضافة الى هؤلاء تأثرت أسماء معروفة في جيل السبعينيّات بتجربة حسب الشعرية، والعالم الدائري لقصيدته، ومن يلقي نظرة على العدد الخاص بشعراء السبعينيّات في العراق في مجلة «الكلمة» وعلى بعض شعراء هذ الجيل الذي أصدر دواوين شعرية حينذاك في نهاية السبعينيات ومطالع الثمانينيات سيعثر دون عناء على ذلك التمثّل لتجربة حسب الشعرية والفنية.

٭ ٭ ٭

كنت أترصّد مجاميع حسب الشعرية، وبخاصة دواوينه الثلاثة «الطائر الخشبي» و»زيارة السيدة السومرية» و»عبر الحائط في المرآة» فبهذه الإصدارات الثلاثة بنى حسب الشيخ جعفر عمارته الشعرية، الإبداعية،الشاهقة والمميّزة في طريقة بنائها اللغوي والتعبيري والشكلي، فكنت قبيل صدور ديوانَي «السيدة السومرية» و»عبر الحائط في المرآة» أعمل في «دار الحرية للطباعة» وموقع عملي يقع في مطبعة الحكومة، فهناك كنت بواسطة عملي الوظيفي يمكنني الإطلاع على ملازم ديوان «زيارة السيدة السومرية» ولكم كنت أفرح لهذا الأمر وأنا أراجع الديوان. في تلك اللحظات كنت أحفظ منه الكثير لأنقله الى رفاقي الشعراء في المقهى، حيث نلتقي يومياً، أو أخبرهم بما سيصدر للشعراء المعروفين في تلك الفترة مثل ديوان «الشجرة الشرقية» لفاضل العزاوي و»جنون من حجر» لفوزي كريم، وكذلك ديوان حسب اللاحق «عبر الحائط في المرآة» وهو التحفة الدائرية لشكل القصيدة حينذاك.

٭ ٭ ٭

في حدائق اتحاد الأدباء كنت أرى الشاعر حسب الشيخ جعفر كل يوم تقريباً، له مائدته الخاصة، وجلاسه الخاصّون، ولا نستطيع نحن الشباب حينذاك التطفّل على مائدته، وكانت تضمّ في الغالب المترجم سامي محمد وسليم السامرائي، والبياتي في بعض الأحيان. مرة كنا جالسين في حديقة الاتحاد صيفاً، سعدي يوسف وأنا، فدخل البياتي وحسب، ولم يلقيا التحية علينا، فاستشاط سعدي وخرج متذمراً مزبداً من الاتحاد، ليتركني حينها وحيداً مع كأسي، حتى طل أصدقائي لأحكي لهم ما جرى من أمر، ففسّر بعض أصدقائي الأمر في لحظتها تفسيراً سياسياً، فقد كان سعدي في تلك الفترة منبوذاً من السلطة، وقد حاربته بطرق عدة أبرزها كان نقله من رئاسة مجلة «التراث الشعبي» إلى موظف عادي في دائرة للري، تقع بالقرب من مجلة «ألف باء» الحكومية الواقعة في منطقة باب المعظم، لكني وجدت الأمر حينها مجرد حساسية بين الشعراء، خصوصاً من جانب البياتي، فحسب معروفة صداقته لسعدي، ولم تنفصم عراها أبداً، وهذا ما أكدته علاقتهما المتينة والقوية حين أقاما في عمّان العاصمة الأردنية في عقد التسعينيات.

٭ ٭ ٭

الناقد سليم السامرائي الذي لم يترك أثراً نقدياً واضحاً في الثقافة العراقية، لكنه كان شخصاً خلوقاً ومحبّاً وهادئاً كحسب الشيخ جعفر ، طلب مني ذات يوم ونحن في حدائق «اتحاد الأدباء» أعمال حسب الشيخ جعفر كلها فلبيت طلبه على أن يعيدها إليّ بعد أسبوع، لكنه لم يعدها رغم مرور الكثير من الأسابيع والشهور، لتضيع مني بعد ذلك، وأفقد تلك الطبعات النادرة والمميزة إلى الأبد .

٭ ٭ ٭

آخر مرة رأيت فيها حسب الشيخ جعفر، كان في عام 1998 في عمان، كنت حينها مدعواً لمهرجان «جرش» في الأردن، هناك رأيته بين المدعوّين، ناحلاً، مبتسماً ابتسامته الخفيفة، سلمنا على بعض وتعانقنا بعد طول غياب، حدّثني تحت مسمى «الرفيق» مشدداً ومؤكداً على هويته اليسارية القديمة، التقيته في سكن متواضع في عمان عند أحد الأصدقاء، كان هادئاً كعادته وقليل الكلام، وهما ميزتان يتسم بهما حسب الشيخ جعفر بالضد من طبيعة الشعراء، وهم في الغالب فوضويون، عبثيون، غير منظمين، هو ظل مواظباً على تنظيمه، الكتابة الشعرية والترجمة وكتابة مذكراته، لقد رفد حسب المكتبة العربية بأهم التراجم الروسية، فعرَّف العرب وعن كثب كونه يتقن الروسية، بأهم شعرائها من أمثال بوشكين، ويسنين، ومايكوفسكي وآنا أخماتوفا وغيرهم، وكتب شبه سيرة أو مذكرات مشوقة وممتعة هي «الرياح تمحو والرمال تتذكر» وكتب كذلك رواية وكانت جميلة، وأذكر وقت صدورها، كتبت مقالاً في صحيفة «الحياة» عنها، مطرياً هذه التجربة التي لم تكن تخرج عن سياق تجربته الحياتية والشعرية في موسكو، حين درس الأدب الروسي في أحد أهم جامعاتها في منتصف الستينيات، وحين عاد إلى العراق صنع من تلك التجربة مادة لا غنى عنها، في الشعر والنثر والترجمة.

شاعر عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية