أطلق الروائي الفلسطيني الذي يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي باسم خندقجي، صاحب رواية «قناع بلون السماء» الفائزة بجائزة البوكر العربية والصادرة عن دار الآداب عام 2023، اسمي «نور وأور» على بطل روايته، وهو يتلبسهما بالتبادل ليحكي عن السارق والمسروق بطريقة شاهد عيان، اضطر لانتحال هوية غير هويته. عندما يلبس «نور» هوية السارق «أور» يظهر هذا الأخير قوياً، وجباراً، بل «بطلاً خارقاً» مستنيراً وحداثوياً. ينزوي المسروق «نور» جانباً، وهو الذي يوصف بأنه ضعيف، خائف، ملتبس، متناقض، متخلف، بدائي وحاقد.
هكذا يشرع الروائي بتقديم بطل روايته الذي يتحول من «نور» إلى «أور» كاشفاً خلجاته النفسية والاجتماعية وناقلاً معاناة إنسان بدا وكأن الزمن والعالم كفّ عن متابعة شأنه.
هذه رواية ليست للبحث عن الهوية الفلسطينية، بل لتأكيدها لأنها حاضرة وقوية. بعد أنْ أقاموا الحد عليه، ومنعوه أرضه وسماءه، وأشبعوه عنفاً، وجوعاً، وحرماناً لم يجد إلا أنْ يدخلها ـ أرضه – منتحلاً شخصية أخرى ليرى كيف تتقلب الأمور ويصبح صاحب الحق «إرهابياً ومخرباً» مخالفاً للقانون، يضمر الكراهية بينما يوصف السارق الغاصب المتجبر بأنه «إنسان متحضر وشخصية نيرة». تحكي الرواية عن عالمين مختلفين يرى فيها المسروق سارقه وهو يستخدم موجوداته، أرضه، ثماره وخيراته، فيما يُدفع هو بعيداً ويحشر خلف الجدار العنصري في عدد من المخيمات، أو في أرض مقتطعة اسمها «غزة». يمضي العالم الأول بسلام وأمان في ما يُعرف العالم الثاني من خلال تسرب أخبار عن تعرضه لمجزرة دموية ساحقة ماحقة: تل الزعتر، صبرا وشاتيلا، جنين أو الشاطئ.
يختار الروائي أنْ يكون الراوي من عرب فلسطين الذين التصقوا بأرضهم، ولم يغادروها كأن يكون من حيفا أو يافا أو الناصرة حرصاً على نقاء الصورة، ومصداقية الحكاية. يتخذ من مشروعه لكتابة رواية عن مريم المجدلية الساكنة في عمق الدين والتاريخ هدفاً يسعى للوصول إليه. يقاوم نقد صديقه «مراد» للتحول عن ذلك المشروع إلى مشروع روائي يحكي فيه عن قضية معاصرة وراهنة. يفاجئ صديقه بأنْ يتحول إلى المعاصر الراهن، فيما كان يغذ الخطى في مشروعه إذ تعترض طريقه «سماء إسماعيل» الحيفاوية التي يهمس لها في نهاية الرواية قائلاً: أنت هويتي ومآلي». يراها كبيرة وشامخة لأنها لم تتخل عن هويتها وتقدم نفسها على أنها من حيفا فيما يعتصره الألم وقد «أنكر أصله» وإنْ لم يكن قاصداً أو مختاراً. تضع «سماء» وشماً على ذراعها «حيفا 1948» وبدت له في تلك اللحظة «مريم المجدلية النورانية» التي «عبرته كموجة ناعمة لطيفة مفعمة بسكينتها وسلامها الداخليين». هكذا يقدم الروائي المرأة الفلسطينية التي مثلت الأرض والوطن والبيت والملاذ.
ولد بطل الرواية «نور مهدي الشهدي» عام 1991، وتوفيت والدته العشرينية «نورا» فور ولادته فكان عليه أنْ يحرم من ضرعها منذ تلك اللحظة، وإلى الأبد. اعتقل والده، زوجها بعد أسابيع من زواجه منها بسبب مشاركته بالانتفاضة. يعود «مهدي» بعد قضاء خمس سنوات في السجن من مجموع 25 سنة حكم عليه فيها بالمؤبد، ولم يطلق سراحه حتى وقع على تعهد بعدم العودة إلى العنف، واحترام مقررات أوسلو. يفجع برحيل عروسته ويخيب ظنه بموقف رفاقه ممن أهملوا عائلته، وانشغلوا بمحادثات السلام المزعوم. ينكفئ على نفسه وبضغط من أمه يتزوج «خديجة» التي أخذت من الزواج أنها أرملة شهيد، وتزوجت أسيراً حدث أنه كان صديقاً لزوجها الراحل، وهي أخت زوجته الراحلة. شبكة علاقات تنسج منها المرأة الفلسطينية مكانتها في تلك الأرض التي توقفت عن أنْ تكون أرضاً للبناء، كئيبة تحاول النهوض ببعضها بعضا من هول النكبة التي لحقت بسكانها.
كل ما يتذكره «نور» عن البيت الذي نشأ فيه النحيب والعويل والنشيج من أبيه وزوجة أبيه. ظهر صديقه «مراد» ليشكل بارقة أمل في حياته حتى أختطف من قبل قوات الاحتلال بسرعة فائقة. فكان على أمه الحاجة «فاطمة أم عدلي» أنْ تسعى لزيارته شهرياً في رحلة تستغرق ثماني ساعات رواحاً ومجيئاً. تراه وتحدثه لخمس وأربعين دقيقة فقط من وراء زجاج النافذة التي يطل منها عليها في السجن. يتأملها «نور» بدراً يتلألأ في الطريق إلى ولدها «مراد» لكنها تعود منطفئة ما أنْ ينقضي اللقاء. لم تعد تصنع طبخة ورق العنب التي كان يحبها «مراد». أقسمت أنها لن تطبخها حتى يعود، لكن السؤال متى يعود!
يصف «مراد» السجن بأنه «مقبرة الأحياء». يسخر «نور» من مفهوم «مراد» للسجن لأنه يرى أن المخيم سجن أكبر، وأكثر تعقيداً. فالسجن الذي يقبع فيه «مراد» يتبع معادلة واضحة ومحددة: سجن وسجين وسجان، لكن سجن المخيم أشد وأقسى. عاد «نور» من جديد إلى وحدته وكآبته ليلوذ «بمحراب صمته». لا يتذكر أن أباه ضربه أو أنبه لكنه «جلده بصمته». تعلم «نور» العبرية بشغف بلغ به حد الهوس بها ليس لأنه يحبها، لكنه اتبع مفهوم الجزائريين أثناء حرب الاستقلال من فرنسا، باعتبار اللغة «غنيمة حرب» ما ساعده على تحقيق بعض من مشروعاته التعليمية والبحثية.
رواية «قناع بلون السماء» سردية في الوجع الفلسطيني الذي أصبح فيه سكان الأرض هوامش مقابل الغاصب السارق الذي استحوذ على المركز. لكن هذا المركز لم يخل من مناكفات وخصومات داخلية، تمثلت فيما تسترجعه الرواية عن العلاقة بين اليهود الغربيين واليهود الشرقيين، ممن يشعرون بالدونية ويدركون ذلك.
ينهمك في ثنائيات تجعله في حالة «الما بين بين». ثنائيات لا تشبه ما عبر عنه علي الوردي بـ «الازدواجية» وهو يحلل طبيعة المجتمع العراقي، التي تمارس بصورة عفوية وتلقائية بلا وعي مسبق لها. الثنائيات لدى «نور» تتجلى بصيغة قرارات واعية يستخدمها مدركاً مستدركاً ليستكشف عالم السارق. فهو يعرف من يكون ويعرف من يتقمص هويته باسمه وأفكاره ونمط سلوكه. تقمص يعرضه لتهمة خطيرة حسب قانون السارق. تشتمل هذه الثنائيات على الماضي والحاضر، المخيم والمدينة، رام الله والقدس، نور وأبيه، الصمت والبوح، الظاهر (السارق) والباطن (المسروق) المعلن والمحكي عنه والمخفي والمسكوت عنه، القراءة وتسجيل الرسائل الصوتية.
انضم «نور» إلى فريق بحثي آثاري يديره معهد أولبرايت نسبة إلى عالم الآثار الأمريكي الذي أسسه «وليام أولبرايت» المعروف بنهجه التوراتي مطلع القرن العشرين. وفيه اجتمع مع مجموعة من المشتغلين في مجال الآثار قدموا من الولايات المتحدة وكندا وألمانيا وبلجيكا وفلسطين – حيفا- و»أيالا» الصهيونية. هاله مقدار الكراهية التي تحملها «أيالا» لـ»سماء إسماعيل» الفلسطينية رغم أنها لم تكلمها. لم تدخر «أيالا» جهداً لاستفزاز «سماء» واتهامها بمعاداة السامية. وعندما فتحت موضوع المحرقة بادرتها إلى القول: أنت لا تعترفين بالمحرقة. ردت «سماء» أنها لا تعترف بصهينة المحرقة، وأن التطهير العرقي الذي تمارسه القوى الصهيونية لا يقل سوءاً عن المحرقة. تخاطب «أيالا» زميلها في الفريق البحثي «أور – نور» الذي كان يحاول تهدئتها مشددة بالقول: إنها معادية للسامية، ترفض التخلي عن أوهامها وماضي الحروب والنزاعات.. لديها أكثر من عشرين أرضاً في الأردن وسوريا والعراق وغيرها».
تملكته الحيرة وهو يسمع أصوات موسيقى تبين أنها تعزف احتفالاً بيوم العمال العالمي. تذكر أن سكان المعسكر اشتراكيون. تساءل في سره: أليست الاشتراكية هي القدرة على خلق ظروف إنسانية لا نكبوية؟». لم يستطع التغاضي عن أن هذه المعسكرات وفرق البحث الآثارية، إنما تقيم وتمارس عملها وقد داست على قرى عربية فلسطينية هُجر سكانها مثل قرية أبو شوشة واللجون وصرعة وغيرها. ولما كانوا يتحدثون في دائرة مغلقة فقد انبرى «ناتان» ضابط أمن المعسكر أن المعسكر كان مقراً لتدريب 160 يهوديا متطوعا لإعداد المتفجرات وتخريب أنظمة الاتصال اللاسلكية وتشغيلها، إلى جانب استخدامها مخازن لإخفاء أطنان من المتفجرات. حدث ذلك عام 1942 بإدارة بريطانية إثر تحقيق ألمانيا انتصارات في الحرب، والخشية من نصرها النهائي. تهيأ هؤلاء المتطوعون للمشاركة بأعمال إرهابية في حال استدعوا إلى ذلك. صار هؤلاء المتطوعون بعد انتهاء الحرب أعضاء في عصابات الهاجاناه، التي لعبت دوراً مهماً في ترحيل الفلسطينيين وتهجيرهم من قراهم. كما استخدمت هذه المعسكرات كمقرات أمنية لهذه الجماعات. وفيما كان «أور» يشم رائحة الصنوبر، شم «نور» رائحة الموت والدمار والتهجير القسري وهو يستمع إلى هذه الحكايات.
رواية «قناع بلون السماء» سردية في الوجع الفلسطيني الذي أصبح فيه سكان الأرض هوامش مقابل الغاصب السارق الذي استحوذ على المركز. لكن هذا المركز لم يخل من مناكفات وخصومات داخلية، تمثلت فيما تسترجعه الرواية عن العلاقة بين اليهود الغربيين واليهود الشرقيين، ممن يشعرون بالدونية ويدركون ذلك. ظهرت مثل هذه العلامات منذ قدم اليهود الشرقيون إلى فلسطين، حيث أسكنوا كما تسترجع «أيالا» في معسكرات بعيدة ريثما يعاد تأهيلهم ليصبحوا مقبولين من قبل اليهود الغربيين. يختتم خندقجي الرواية بالانسحاب من فريق البحث الآثاري الذي أوقف العمل فيه بسبب تهديد «حماس» بقصف تجمعات المستوطنين واعتدائهم على سكان حي جراح في القدس الشرقية.
يذكر إن باسم خندقجي من مواليد نابلس عام 1983، وأنه يقضي حكماً مؤبداً بالسجن والعزل الانفرادي لثلاث مرات في سجن عوفر الإسرائيلي جنوب غرب رام الله، كما ذكر صديقه المقرب سميح محسن في مقالة نشرها مطلع أيار/مايو الجاري. لكن الروائي يوقع في خاتمة الرواية أنه أنجزها في 9 تشرين الأول/أكتوبر سجن جلبوع الكولونيالي عام 2021. وكان رئيس لجنة التحكيم الروائي نبيل سلمان قد أعلن عن فوز الرواية في الحفل الذي أقامته إدارة الجائزة عشية افتتاح معرض أبو ظبي للكتاب.
كاتبة عراقية