التخطيط للأعمال هو موضوع مهم في الذكاء الاصطناعي، وعنه أخذ الدارسون للسانيّات العرفانيّة، ولاسيّما التداولية، كثيرا من أفكارهم. مارتا إليزابيث بولاك Martha E. Pollack أستاذة جامعية أمريكية وباحثة في الذكاء الاصطناعي وفي اللسانيات لها أفكار مهمة حول التخطيط بما هو عمل منغمس في نوايانا التواصلية اليومية.
وتميّز بولاك بين تخطيطات يعرفها كل من انخرط في عمل، أو في قول ويتبعها على أنّها شيء معلوم مسبقا، فحين لا أعرف مقرّا إداريا، سأخطط للكيفية التي أصل بها إليه، وحين لا أفقه القيادة الرقمية بالهاتف، فإنّي سأتبع طريقة تقليدية هي أن أسأل عنه المارّة، وقبل أن أسأل أحد المارة، ولكي أكون مؤدّبا عليّ أن أخطط لأنتج كلاما يدفع مجيبي إلى التعاون معي، كأن أبادره بالسلام قبل أن أطرح عليه السؤال بشكل واضح.. هذه أشياء تعلّمناها من تجربتنا اليومية في التعامل والتواصل، ونحن نتبع هذه المراحل بالألفة الثقافية التي لنا، فهذه معرفة بالمخطط مسبقة نمتلكها جميعا. فإن نعرف، فذلك يسمّى طريقة أو سبيلا للعمل؛ وهناك علاقة مطردة ومنعكسة بين الفاعل والطريقة التي يتبناها ذلك أنّ لكلّ فاعل، وهو يسمّى في هذه النظرية عاملا Agent، مخططا لإنجاز سبيل العمل.
في هذه النظرية التي تركز على أنّ التخطيط للكلام جزء من حالة ذهنية للمتكلم أثناء الكلام يعتبر الكلام تواصلا تعاونيا بين شريكين فأكثر؛ وتستفيد بولاك من نظرية الذكاء الاصطناعي، في ما تسمّيه توليد المخطّط بأن تكون المخططات محوسبة بواسطة الروبوتات؛ وينتظر منها أن تصل بعمل معيّن ينجز على يد عامل إلى أهداف معينة، انطلاقا من وضعيّات أوّلية. في هذه الحالة يمكن أن يوجد كثير من الخطط المناسبة لسبل العمل المذكورة أعلاه وقيمة الذكاء الاصطناعي أنّه يقود إلى أنجعها في وضعية من الوضعيات المعلومة. ففي المحاورة أو التواصل بين شخصين (وهما عاملا الكلام) يقول العامل الأول للعامل الثاني: (أريد أن أكلم زيد بن رفاعة فأرجو أن تعطيني رقم إدارة الكهرباء في مقاطعة واق الواق)؛ يجيبه العامل الثاني: (زيد بن رفاعة في عطلة مرضية بأسبوعين وهو يتماثل للشفاء في بيته في دوار الرخّ وهذا رقم البيت 74 22 33 44 77). يعتقد العامل الأوّل أنّ زيد بن رفاعة موجود في مقرّ عمله في إدارة الكهرباء في مقاطعة الواق الواق، وهو يخطّط لكي يهتف إليه هناك؛ بيد أنّ العامل الثاني يعتقد أنّ نيّة العامل الأول كي يكلم إدارة الكهرباء، ينبغي أن لا تنجز بما أنّه يعتقد أنّ العامل الأوّل، إن كلم الإدارة هناك فلن يبلغ هدفه الذي خطط له، وهو مخاطبة زيد فهو في الوقت الراهن في منزله في مقاطعة دوار الرخّ. وهكذا فإنّ العامل الثاني كان متعاونا مع العامل الأوّل، وقدّم له معلومة تساعده على تحقيق هدفه الأصليّ، فقد قدّم له رقم الهاتف، حيث يوجد زيد؛ بل إنّه ذكر له السبب الذي جعله يعتقد أنّ المعلومة الأولى التي قدمها له ليست صحيحة، ولا هي مساعدة له كي يحقّق هدفه الأصليّ.
إنّ الحوارات التي هي من هذا النوع، والتي تحمل فيها معتقدات العامل (المتكلم) المستنتِج والمستدِلّ اختلافا جوهريّا عن معتقدات العامل، الذي يدور حول مخططه الاستدلال، تمثل شكلا مهمّا من أشكال التحدّي لمعظم أنظمة الذكاء الاصطناعي الموجودة. وتحدثت بولاك عن المكوّن الاعتقادي للمخططات، فترى أنّه لكي تسأل زيدا مثلا عن شيء يتعلق بالعمل في إدارة الكهرباء كأن تقول له: «هل يمكن أن تساعدني على استبدال العدّاد القديم؟» فإنّ ذلك يستلزم إنجاز هدف عمل، ومن الممكن أن يتحقّق الهدف لو أنّ زيدا كان لا يزال في إدارة الكهرباء؛ أمّا وقد بات مريضا في منزله فمن الممكن أن يُغيّر هدف العمل بعد تغيير المخطّط تغييرا كاملا أو جزئيا. التغيير الكامل أن تتّصل به في المنزل وبدلا من تسأله عن العدّاد ستسأله عن حاله؛ والتغيير الجزئيّ أنّه وبدلا من أن تسأله وهو في مقرّ العمل عن العداد، ستسأله عن الموضوع نفسه وهو في البيت.. سيكون في ذلك قلة ذوق عند بعض الناس لكنّ الهدف من المكالمة والاتصال لن يتغير.
الترتيب الزمني للأحداث هو جزء أساسيّ من المخطّط: فعلى سبيل المثال ولكي أضع البصل في المرق، عليّ أن أشتريه أوّلا ثمّ أباشره بالمعالجة غسلا وتقطيعا، وهذا في الحقيقة تنفيذ لاعتقاد لي ولغيري ممن يشاركني الثقافة المشتركة، أنّ هدفي لن يتمّ إلا بهذا. وهذا النشاط الذي أخطط له ينفذ كثير منه بالتواصل مع بائع البصل ومع زوجتي مثلا، التي توصيني بشرائه أو حتى بتقطيعه بنفسي إعانة لها، فنحن في تواصلنا قد نفذنا بالكلام مخططا نحن نعتقد أنّ هدف الطبخ لا يتمّ إلاّ به. لكنّ الترتيب لا يمكن أن يكون محترما بالتفصيل؛ فهناك محطّات تضمّ أحداثا تنظيمها الزمنيّ الذي ترتبط به مع عناصر أخرى، لا يكون ضروريّا، فترتيب عناصر تحضير المائدة ليس شيئا مهمّا من جهة حدوثه في الزمان سابقا أو لاحقا. فمن الممكن أن أضع الصحون قبل الملاعق والشوكات والسكاكين، أو أن أضع الطعام قبل كل ذلك، أو أغير النظام بناء على ذلك؛ فالمعتقدات التي هي جزء من مخططي ستكون جزئيّة.
وهذا ينطبق على نشاط التواصل بالكلام؛ فعلى سبيل المثال، فإنّ مجموعة الأعمال التي أعتقد أنّها ستوصلني إلى هدفي المتمثل في السؤال عن إمكان تغيير عدّاد الكهرباء، يمكن أن تضمّ الطريقة التي عليّ أن أبحث بها عن رقم زيد، على الرغم من أنّني لا أعرف كيف سأحصل عليه، سواء أكان ذلك عن طريق دليل الهاتف، أو كان عن طريق مشغل المعلومات، أو بسؤال شخص ما عن رقمه. لنفترض أنّي وأنا أبحث في دليل الهاتف عن رقم هاتف زيد وجدت هاتف البنك، الذي أوطّن فيه حسابي، وتذكرت أنّ عليّ أن أكلّم الموظف عن خطأ تسرب في عملية من عمليّات التحويل، فإنّه من الخطأ أن نقول إنّ وجود رقم البنك، الذي أنا أوطّن فيه حسابي، هو جزء من مخطط مكالمة زيد؛ أو أنّه لعب دورا فيه فهذا العمل هو جزء من مخطط آخر.
كذلك الأمر يحدث حين تكلم زيد عن عداد الكهرباء، وتتذكّر في الأثناء أنّ العدادات التي تعتمدها الشركة ليست مناسبة، أو تجاوزها العصر، فإنّك لن تنخرط في محادثة عن حداثة العداد، أو قدمه وأنت تنوي تغييره لأنّك اقتنيت آلات إلكترونية استهلاكها للطاقة كثيف فلهذا خطة ولذاك أخرى.
تراعي مخططات للأعمال ما يسمّى التوليد، وهو أنّ العامل وهو يسعى إلى أن يخطّط لهدف، فإنّه يبحث عن الأعمال أو الوسائل التي بها يمكن أن تتولد الأهداف أو تتحقق الغايات. فعلى سبيل المثال فإنّنا لا يمكن أن نكلم شخصا بالهاتف إلاّ إذا عرفنا رقم هاتفه. التوليد في هذا المعنى هو الربط بين عملي تخطيط بواسطة شيء نحن نعتقد أنّه لا يتحقق إلا به. والتوليد هو الذي يمكن أن نعبر عنه باللغة بعبارة حرف الجرّ (ب) التي تدلّ على الوسيلة في قولنا (كلمت زيدا بالهاتف؛ وسألته: هل في مقدورك أن تعينني على تغيير العداد). لكن في عبارة السؤال (هل في مقدورك أن تعينني..) عمل لغوي يسمّى الاستفهام به ولّدنا طلبا هو في الحقيقة: (أعنّي على تغيير العداد). لا يمكن أن يكون التوليد صحيحا إن أنا لم أكن اعتقد أنّي حين أطرح على زيد هذا السؤال سيفهمه بالاستدلال على أنّه طلب. هل خطّطت بوعيي لذلك؟ وهل التخطيط لهذا الضرب من التوليد هو نوع من النوايا؟ هذان سؤالان مهمّان من الأسئلة التي تربط بين الوعي والاعتقاد من ناحية، والتخطيط للأعمال التي من بينها الأقوال من ناحية أخرى.
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسيّة