«أنا جائع يا رب» مجموعة الشاعر المصري كريم عبد السلام: شعرية الخبز والانحياز إلى المسحوقين

صابر رشدي
حجم الخط
0

يبدو أن الشاعر المصري كريم عبد السلام يعود بنا إلى زمنٍ كان الشاعر فيه يتحدث بلسان حال المعذبين والفقراء، يعبر عن آلامهم، ويرفع العرائض والشكاوى المُرّة، من خلال شخصيات توزع علينا الألم بالتساوي، فربما وجدت آذاناً صاغية، وصدوراً تتسع لإعادة النظر في كثير من المظالم.
ففي ديوانه الأخير «أنا جائع يا رب» عبَّر عن صرخات مكتومة، وأنات جوعى ومحرومين، عبر صيغ إنسانية، مطابقة لواقع الحال، عن بشر مأزومين، يعانون أزمات اقتصادية طاحنة، دهسهم قطار الرأسمالية المتوحشة، وفقاً لنمطها الحديث. وأرهقهم فساد أكثر شراسة، سحق الطبقة الفقيرة بلا رحمة، وتلاعب بالطبقة الوسطى، متعمداً تفكيكها، جاذباً إياها إلى أسفل، حتى يتخلص من ديناميكيتها، وانشغالها بالشأن العام، نتيجة اطلاعها الدائم على مجريات الأمور، متابعتها الدقيقة للأحداث، امتلاكها الوعي المعرفي، وقدرتها على قول كلمة: «لا». وهذا رغم أن الشاعر ينتمي إلى ما يسمى بجيل التسعينيات، هذا الجيل الذي حاول معظم أبنائه التخلص من الهم العام والقومي والعروبي، ومن كل القضايا الكبرى، حيث ينتمي الشاعر إلى نفسه، مخاطباً ذاته، يحاورها، كأنه محور الوجود، منعزلاً عن القضايا الكبرى.
يمتح كريم عبد السلام من لغة الحياة اليومية، منشغلاً بالحاضر والآني، ينظر من نافذة مفتوحة على بانوراما كاملة، تضم كل ألوان الطيف، يراقب العالم، ينصت إلى الجميع، ليتخذ في النهاية موقفاً حاسماً، منحازاً إلى هؤلاء الذين هبطت بهم الحياة إلى مستويات مُذلة، تحت ضغط الأزمات الخانقة. موقناً بأن شرط تحقيق الإنسانية هو الانغماس في قضايا الناس، كواحد منهم، ليس خارج الجماعة، فالشعر ليس نشاطاً فردياً في مجمله، كما يرى البعض ممن يعتقدون أن النزعة الجماعية لا تصلح لكتابة قصيدة. يكفي الشعر أن يوفر الحماية لشرائح معينة، خارجاً من شرنقة الأنا، متطوعاً، بعيداً عن أي إكراهات أيديولوجية. قد لا يغير شيئاً، لكنه، قد يكون شهادة على عصر، وعلى فترة زمنية محددة، تحتاج إلى سجلات إبداعية تحفظ للتاريخ ما جرى.
يقول كريم عبد السلام في قصيدة «لصوص»:

«اختر لصاً واحداً من هؤلاء حتى تقطع يده:
سرق رغيفاً ليأكل
سرق كتاباً ليقرأ
سرق رصيفاً لينام
سرق موضع كوخ من الصفيح ليتوارى فيه مع أهله
سرق نهراً ليشرب
سرق مدينة ليترشح عنها في البرلمان
سرق الأحلام ووضعها في صندوق مغلق
وأخفى الصندوق في زنزانة
والزنزانة في سجن بالصحراء تحرسه وحوش جائعة».

الشعر عندما يتخلى عن لغته المنمقة

لسنا هنا أمام لعبة خيارات، بقدر ما هي وثيقة إدانة تلعب على المفارقة بين عنصرين على طرفي نقيض. تجرُّك إلى التعاطف مع المسحوقين إثر هذه المكاشفة، تحرضك على ناهبيهم، وتشير إلى جرائمهم. إنه الشعر عندما يتخلى عن لغته المنمقة، عن الرمزية، والإيحاء، والإسقاط السياسي، ويلجأ إلى لغة الشارع، من أجل الحقيقة، وكشف المستور، والانفلات من وصمة المهادنة. ليس للشاعر من سلاح سوى القصيدة عندما يحاول التعبير عن غضبه، فقط الكلمات هي التي تحمل الرغبة الصادقة في التغيير، والتطلع إلى عالم أفضل. يواصل كريم في هذا السياق مستحضراً السياقات الاجتماعية، لإعادة صياغة الحياة، كما في قصيدة «أيها البعوض المحترم»:
«الأغنياء لا ينامون الليل
خوفاً من اللصوص والقتلة والإفلاس
وفي النهار، يسيرون محاطين بحراسهم، تحسباً لطلقة طائشة».
الثراء ليس عيباً أو سُبة، لكن الشاعر يقصد إلى نوعية معينة: الأغنياء الفسدة، الذين يزاوجون المال بالسياسة، ويمررون كل صفقاتهم، على نحو غير بعيد عن الشبهات.
ثمة صراع طبقي يسري عبر سطور هذه القصيدة، وتوصيف لحالة ذوات غاضبة فاض بهم الكيل، ولم يعودوا يستطيعون كتمان هذه المشاعر، حتى نبرة الشماتة تبدو واضحة. فالأغنياء دائماً مرضى، أعمارهم قصيرة، يضعون تحت وسائدهم مسدسات وسكاكين لمواجهة الكوابيس، بينما الفقراء ينامون ملء الجفون، في برد يناير، وحر أغسطس، فهم لا يملكون ما يخشون عليه من الزوال. إنهم، فقط، يتوجهون إلى البعوض المحترم، أن يمتص دماءهم بصمت، دون طنين احتفالي، يشعرهم بأنهم فرائس مفضلة…
مَن هم «البعوض المحترم» الذي اتجه إليهم الشاعر بالنداء؟
أعتقد أن الأمر لا يحتاج إلى تخمين، فلا مجاز هنا بمعناه الحقيقي.
نادراً ما يخرج الشاعر المعاصر من شرنقة ذاته، مستجيباً لخدمة قضايا إنسانية، خوفاً من الاتهام بالتكلف والركاكة، وعلى الجانب الآخر، خوفاً من فقدان امتيازات زائلة، قد يفعلها بمقال، أو بالتوقيع على بيان، تضامناً مع حالة معينة. والبعض يخشى على القصيدة من الوقوع في المباشرة، وفقدانها النقاء اللغوي، ولا يخشى الصمت والخذلان، ناسياً كلمات الشعراء الكبار، الكبار، على مثال محمود درويش: «سجِّل! أنا عربي/ ورقم بطاقتي خمسون ألف/ وأطفالي ثمانية»؛ ومثال أمل دنقل: «لا تصالح!/ ولو منحوك الذهب/ أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما/ هل تَرى..؟/ هي أشياء لا تُشترى»؛ أو بدر شاكر السياب: «وَكُلَّ عَامٍ – حِينَ يُعْشب الثَّرَى ـ نَجُوعْ/ مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ/ مَطَر/ مَطَر/ مَطَر».
هي من بين الكلمات الأشهر، التي تضمنتها قصائد لامعة، حفرت لها مكاناً في الذاكرة الشعرية للمواطن العربي، ولم تفقد بريقها، بل ربما كانت الحاجة إلى ترديدها في هذه اللحظات العصيبة أشد وأعمق.
في قصيدة «أنا جائع يا رب» ثمة مناجاة لشخص يتوجه إلى الله، وهو واقع تحت ضغط فقر مُذل، معدداً مآسيه مقابل مزايا الموسرين، يصف تعاسته مقابل سعادة الأغنياء. يشكو بنفاد صبر، حياةً هي أقرب إلى الجحيم. يصف عالماً قاسياً، يحاصره. إنها قصيدة العنوان، والأطول في هذه المجموعة الشعرية. تشوبها نبرة ضجر، وعدم رضا، بوضوح شديد، وتُلقي المسؤولية على السماء، بعيداً عن الصراع الإنساني، ورأسمالية المحاسيب، على نحو قد يبطل معه شعرية القصيدة. ففي ظني، لو توجه هذا الصوت بالخطاب إلى ذاته، عبر مونولوج داخلي، أو توجه إلى كائن آخر، لكان هذا التكنيك الشكلي أشد وقعاً وأكثر تأثيراً، ولتحقق معه فعل المقاومة، هذا الفعل الإيجابي الذي يغطي معظم قصائد الديوان، ويحدد معالم معاناة خانقة، إنه البوح الذي يحطم كل القيود، ولا يبالي بالمآلات.

الفقيدة هي العدالة الاجتماعية

للأمهات نصيب، أيضاً، في هذا الديوان. ففي قصيدة «العشاء الجميل»، ثمة حكاية، أقرب إلى قصة قصيرة، مكتملة العناصر، مكتوبة بضمير الغائب، الذي يصف وينوب عن الأم، يرفع عنها حرج البوح الأليم، في مشهد تراجيدي يتصاعد ببطء، حتى يتم التركيز في الحالة بدقة. يقول الشاعر/الراوي، بادئاً من اللحظة صفر لتحضير وجبة غذائية وهمية:
«في الساعة الخامسة
الأم تضم أطفالها الثلاثة إلى حضنها
وتمسح دموعهم بذيل جلبابها
لكنهم لا يتوقفون عن البكاء».
بالطبع عزيزي القارئ، علمت إلى أين سيقودك الشاعر! إذن. فلنتقدم معه خطوة أخرى:
«في الساعة السادسة
الأم تشعل موقد الكيروسين بفرح مصطنع
والأطفال الثلاثة يحدقون في إناء الماء.
الجو بارد والأطفال يرتعشون».
تتوالى المقاطع بعدها، ساعة بعد أخرى، نعاين أحوال أسرة صغيرة حيث تتحول القصيدة إلى سرادق عزاء، الفقيدة هي العدالة الاجتماعية، تلك التي مضت إلى مرقدها الأخير، تاركة وراءها بشراً يتخبطون في جنبات الحرمان. ومع توالي الساعات «مرور الزمن»، تزداد الأمور سوءاً، وكأن الشاعر يجذب ما هو خارج النص إلى داخله، يستعير ما يأنف الآخرون الحديث عنه. وما يخشون الإشارة إليه، مصغياً إلى صراخ الجائعين، وآلامهم.
واقعياً. أجد أنه من المؤسف، والمحزن جداً، أن تتقلص طموحات أي جماعة بشرية، في هذا العصر، وتهبط أحلامها إلى هذا الحد، وهو الحصول على الطعام، الطعام فقط. لا حديث إذن عن الأشياء الأساسية. إن الوصول إلى هذا الدرك لشيء أليم. هل نحن في الطريق إلى صك مصطلح أدبي جديد تحت مسمى «شعرية الخبز»، ليدخل قاموسنا الأدبي تعبيراً عن هذه القسوة؟ ألم يصدر عبد السلام، من قبل، منذ أكثر من عقد من الزمان، في عام 2011، تحديداً، ديواناً شعرياً تحت مسمى «كتاب الخبز»، وهو يماثل درامياً هذا العمل الذي نحن بصدده، مدافعاً فيه عن الجماعة الإنسانية، طبقة المسحوقين على وجه الخصوص، في تعاطف إنساني، مثالي، واهتمام سامٍ بهذا العالم الذي يفتقد كثيراً اهتمام المبدعين، خوفاً من إساءة الفهم!
في مقطع صغير على لسان أحدهم، مجتزأ من قصيدة «يا له من صباح» يقول عبد السلام:
«كل صباح
نفتح عيوننا ونقول:
يا له من صباح
متى ينتهي اليوم».
إنه الوهن، فقدان الأمل، طبقة الصوت النازف للأرواح الممددة في العذاب وهي تعبر الطريق إلى العدم.
ومرة أخرى يطل علينا الجوع، عبر قصيدة «منذ يومين»:
«الجو حار
والسيارات مسرعة
والتراب يهاجم بدون رحمة
بشر يهرولون في الاتجاهات الأربعة
ويدفعونها بالأكتاف
دون اعتذار
دون كلمة
وهي الغريبة، لم تأكل منذ يومين».
في هذا المقطع ثمة تعاطف مع الإنسانية جمعاء. الغريبة؟ لا تدري أي غريبة، هل هي مواطنة من بلد آخر، أم هي غربة وجودية فادحة، تستحق إقامة هذا المشهد، المزدحم بالمنغصات، وتثبيت أركانه كي ينتج تأثيره، ويحتل موقعه في ذهن المتلقي. إن الوعي بهذه التتاقضات الاجتماعية، هو علامة على اهتمامات الشاعر، ونزوع إلى وضع هذه الموضوعات على قائمة الشعر، وأن لا تُعامل كموضوعات طفيلية، تتعالى عليها القصيدة. فالشاعر ليس كائناً استثنائياً، يحلق بعيداً عن هموم البشر، ويحيا مهجوساً بخيالات، وعوالم تفتقر إلى البصر والبصيرة، نائياً عن كل ما هو أرضي، أو واقعي.
يفتح القوس، يلقي نظرة أكثر شمولاً هذه المرة، يخرج من الخاص جداً (العالم الداخلي)، عابراً إلى العام (العالم الخارجي). الصواريخ العابرة للقارات، مركبات الفضاء، الشركات الكبرى التي تلقي أطنان الطعام في المحيطات. بينما الغريبة لم تأكل منذ يومين. القصيدة طويلة، تقربنا من الحقيقة، ولكنا ما زلنا نتساءل من هي الغريبة!
أما في قصيدة «مدينة الحدائق المعلقة»، فالشاعر ما زال هناك، لم يبارح موقعه التقدمي:
«عندما أمطرت ثلوجاً في ديسمبر.
وصمتت الطيور خوفاً من الرعد والبرق
لم يجد الجائعون مفراً من التهام المدينة
حتى تتوقف الرجفة في أجسادهم
لم يكن القرار سهلاً
كان أشبه بخطف المطواة من اللص وغرسها في قلبه».
وهكذا اندفعت جموع الجائعين بأجسادهم النحيلة وملابسهم الرثة وأقدامهم الحافية نحو المدينة البهية الجمال.
إنها القصيدة الحلم التي تتراوح في نثرها بين شكلين: السطر الشعري والكتلة السردية. هي ختام القصائد، ختام الديوان، ختام الهوان. لقد اجتمع الجائعون لكسر القيود، ذهبوا في كل اتجاه. شرعوا في التهام الأسوار العالية، والبنايات الشاهقة، والقصور، أطلقوا عواء الذئاب الجريحة. فوضى، دمار، حطام في كل مكان، إنها أفعال اليائسين، الذين ليس لديهم شيئاً يخسرونه سوى قيودهم.
كريم عبد السلام: «أنا جائع يا رب»
دار الأدهم. القاهرة 2023
90 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية