هناك قضية من المفيد أن يعرفها المرء: في ثمانينيات القرن الماضي انتعشت احتجاجات أنصار البيئة في الأوساط الشبابية ببريطانيا. كما هو منتظر من أيّ سلطة تحترم نفسها، أطلقت الجهات الأمنية البريطانية مخبرين وجواسيس في أوساط المحتجين. تغلغل المخبرون في الحركة الاحتجاجية وكسبوا ثقتها حتى بلغ بعضهم مواقع القيادة واتخاذ القرار. تطلّب ذلك اللجوء إلى سلاح فتاك: الحب. أقام بعض المخبرين علاقات غرامية مع فتيات قياديات في الحركة. عمّرت العلاقات وأثمرت أطفالا تقترب أعمارهم اليوم من الأربعين. متأخرات جدا اكتشفت الفتيات أنهن وقعن في غرام مخبرين أمنيين، وأن قصص حبهن كانت، بكل براءة وبساطة، تفصيلا في مؤامرة كبرى ترعاها أجهزة رسمية. لكم أن تتخيّلوا صدمتهن. وصلت القضية إلى المحاكم لكنها تشعبت وضاعت بين محظوراتها الأمنية وجوانبها الإدارية والإنسانية المعقّدة. إلى سنوات قليلة مضت كانت القضية لا تزال عالقة في المحاكم تعاني من بطء غير مألوف سببه الأول عدم تعاون الجهات الأمنية مع القضاء وليس تخاذل القضاة أو تبعيتهم للجهات الأمنية كما هو الحال في بلدانكم.
لو صاح أحد يومذاك أن أؤلئك الشباب «الرومنسيين» المتحمّسين للدفاع عن البيئة مجرد مخبرين مهمتهم وأد الحركة الاحتجاجية، لاتُهم بالخبل.
أسوق هذه المقدّمة لأقول: إذا كنت من الذين يرفضون نظرية المؤامرة أو يسخرون منها، فراجع نفسك. تخيّل مثلا أن المدَّعية العامة السابقة لدى محكمة الجنايات الدولية، فاتو بنسودا، وُجدت ميتة ذات صباح في بيتها أو في غرفة فندق ما من دون آثار واضحة عن جريمة. أو تخيّل أن زوجها لقي حتفه في حادثة سير عادية من تلك التي تقع آلاف المرات في اليوم عبر العالم. أسوأ من ذلك، تخيّل أن طائرة تجارية تحطّمت في الفضاء وعلى متنها مئة مسافر هلكوا جميعا وبينهم بنسودا أو أفراد عائلتها.
وتخيّل لو أن مكروها ما أصاب المدّعي العام الحالي للمحكمة ذاتها، كريم خان، حاضرا أو مستقبلا.
لو وقع شيء من هذا القبيل، كان العالم سيتوقف عند الخبر، يتابع تغطية تستمر يوما أو يومين، ثم يمضي إلى همومه الأخرى الكثيرة، وتنتهي التحقيقات إلى ما نختصره في مجتمعاتنا بـ«قضاء وقدر» و«التاريخ سيكشف» (رغم أنه لم يكشف شيئا على ما أذكر). وشيئا فشيئا يتراجع الموضوع في الأخبار إلى أن يختفي نهائيا. ففي نهاية المطاف بنسودا وخان مزعجان بمنصبهما وكثيرون في هذا العالم يتمنون اختفاءهما منه. هذا علاوة على أن الأولى قادمة من إفريقيا مكشوفة الظهر لا دولة قوية تحميها ولا تكتل ينتصر لها، والثاني من طائفة أقلية (الأحمدية) في باكستان مرورا ببريطانيا التي رفضت حكومتها دعمه عندما ترشح لخلافة بنسودا على رأس الادعاء العام بالجنائية الدولية.
ما يُبقي نظرية المؤامرة خيالا أن الناس لا يكتشفون أنها ليست خيالا إلا بعد مرور زمن طويل، وبعد رحيل الضالعين فيها أو خرفهم، وانتهاء صلاحية حظر النشر
لو حدث شيء من هذا ثم خرج أحد وقال بصوت مرفوع إن الجريمة مدبَّرة والقاتل طرف متضرر من التحقيقات الجنائية التي تشرف عليها بنسودا أو خان، كانت ستقوم عليه الدنيا ومن فيها.
أما لو لمَّح أحد إلى أن إسرائيل هي المدبّر، أو المستفيد من الجريمة، لاتُهم بالجنون وبأشكال وأنواع من الاتهامات السياسية والدينية والعرقية، وغالبا سيدفع ثمنا باهظا.
في المقابل كان المؤمنون بنظرية المؤامرة سيطرحون، كعادتهم، فرضية التصفية. لكن ما هي نسبة أن تذهب الشكوك في اتجاه إسرائيل؟ قليلة جدا وربما منعدمة. في كل الأحوال لن يتجاوز أمر أصحاب نظرية المؤامرة تغريدات هنا ومقالات محتشمة هناك، ثم ينتهي الأمر لأن الصحافة الغربية النافذة لا تنظر إلى فرضية المؤامرة إلا متأخرة، ولأن هناك جهات قوية قادرة على تكميمها بمختلف الطرق، والعقيدة: ماتت بنسودا، هناك عشرة سيبكونها وألف يتربصون لأخذ منصبها.
وبعد سنوات، قليلة أو كثيرة، سيكتشف العالم أن جهة ما قتلت المرأة المسكينة عقابا لها على قرارات من صلب عملها ومنصبها. وقد لا يكتشف سرّ «وفاتها» أبدا.
الحقيقة أن بنسودا تعرَّضت فعلا لتهديدات صريحة في سلامتها الشخصية وسلامة أفراد عائلتها. ليس على يد مافيا إيطالية أو كارتل مخدرات أو قُطّاع طرق. الذي هدد المرأة هو رئيس جهاز الموساد السابق، يوسي كوهين. لم يتصرف منفردا ولا بطيش، ولكن مندوبا عن قدوته ورئيسه بنيامين نتنياهو. أما السبب، فتحقيق جنائي لم يبدأ أصلا (يجب أن نسميه نطفة تحقيق) في جرائم إسرائيل بالأراضي الفلسطينية منتصف العقد الماضي. لم يكن التهديد مرة واحدة وانتهى، ولا عبر وسطاء أو مراسلات. بل تكرر وامتد عبر الزمن وتولاه كوهين شخصيا بإصرار شمل اتصالات هاتفية شخصية وبلغ حد اقتحامه غرفة بنسودا في أحد فنادق نيويورك من دون موعد مسبق. (عندما سألت بنسودا كوهين من أين حصل على رقمها الشخصي رد بسخرية: يبدو أنك تنسين ما هي وظيفتي في الحياة!).
كريم خان تعرّض هو الآخر، ولا يزال، لتهديدات من النوع الذي تعرّضت له بنسودا. في مقابلة مع صحيفة «صانداي تايمز» الأحد قبل الماضي لمّح خان إلى هذا الموضوع، لكنه اكتفى بالقول إن مكتبه يتلقى تهديدات بأكثر من طريقة. ولعل «نصف الاعتراف» هذا هو ما شجّع صحيفة «الغارديان» على الاهتمام بالموضوع إلى أن انفردت بالكشف عن الإرهاب الذي تعرّضت له بنسودا على يد كوهين برعاية نتنياهو.
رفضت بنسودا الرد على استفسارات «الغارديان» وفي صمتها اعتراف بصحة ما ورد في تحقيق الصحيفة (الثلاثاء الماضي).
ما يُبقي نظرية المؤامرة خيالا أن الناس لا يكتشفون أنها ليست خيالا إلا بعد مرور زمن طويل، وبعد رحيل الضالعين فيها أو خرفهم، وانتهاء صلاحية حظر النشر. والذين (في الغرب) يضعون قوانين السرية وحظر النشر، وهم ذاتهم الرعاة الرسميون لنظرية المؤامرة، يراعون عامل الزمن لأنه كفيل بقتل احتمالات أيّ رد فعل.
هناك أمر لافت: منذ كشفت «الغارديان» فضيحة كوهين تفرض وسائل الإعلام الغربية صمتا مطبقا على الموضوع. مَن يعرف الإعلام الغربي، ولو قليلا، يدرك بسهولة أن هذا «الحظر» غير بريء.. فهل من الخطأ ربطه بما كشفته صحيفة «هآرتس» اليسارية الإسرائيلية الأربعاء الماضي عن أنها كانت بصدد نشر الفضيحة ذاتها في 2022، لكن الاستخبارات الإسرائيلية منعتها في آخر لحظة وهددتها بسوء العاقبة إذا ما خالفت الأوامر؟
كاتب صحافي جزائري