من أجل جيوبولتيك خاصة بالجنوب

يعيش العالم تطورات سياسية هائلة في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، حيث تشابكت جائحة كورونا أو كوفيد 19 مع الحروب التي اندلعت في أوكرانيا وفلسطين، وارتفاع حدة المواجهة بين الثنائي روسيا – الصين في مواجهة الغرب. وأصبح عنوان مختلف أبحاث مراكز التفكير الاستراتيجي، البحث في موضوع انتقال ثقل العالم من المحيط الأطلسي بزعامة الولايات المتحدة إلى المحيط الهادئ بزعامة الصين والدول التي ستدور في فلك هذا أو ذاك.
وعملية الانتقال هذه والتحولات التي يعيشها العالم تشكل تحديا حقيقيا للدراسات الجيوسياسية أو جيوبولتيك، وذلك لأن إيقاع التغيير سريع ومكثف ويحمل مفاجآت، وما زال ثقل العالم متمركزا نسبيا في الغرب، وما زال الباحثون يعتمدون في دراساتهم على النظريات التي أنتجها باحثون غربيون بالأساس أمثال، فريدريك راتزل وألفريد ماهان وهالفورد ماكندر ونيكولاس سبيكمان ضمن آخرين.
وتعد الجيوسياسية مادة أو تخصصا يجمع من كل التخصصات، إذ تتطلب الدراسات الجيوسياسية معرفة لا بأس بها بعلوم مثل، الاقتصاد والتاريخ وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والصناعات الحربية وعلم الاجتماع. ورغم شيوع استعمال جيوبولتيك، وهو تركيب لكلمتي الأرض والسياسة مع دلالة عسكرية والأمن القومي، إلا أن الباحثين يستعملون مثلا جيوإكونومي بمعنى «جيواقتصاد» و»جيو إعلام». وتوجد دراسات جيوسياسية مكتوبة من زاوية اقتصادية أكثر من زاوية سياسية أو من زاوية ثقافية أكثر من سياسية. ويبقى هدف الدراسات الجيوسياسية هو المساعدة على اتخاذ القرار، لاسيما بالنسبة للحكومات، وتصبح ضرورية عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات الحاسمة في العلاقات الدولية، وفيما يتعلق بالجانب العسكري وضمان الأمن القومي ومكانة وسط الأمم. وعادة ما ترتبط هذه القرارات زمنيا بالمدى المتوسط والبعيد، لأنه إذا أردنا تعريفا ميدانيا لهذا التخصص فهو، دراسة المستقبل السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي لأمة في علاقاتها بباقي الأمم، سواء في محيطها المباشر أو غير المباشر والبعيد جغرافيا، إذ لا يمكن إنجاز دراسة جيوسياسية حول دولة افريقية معينة، من دون ليس فقط دراسة علاقاتها بمحيطها الافريقي، بل بدول من حجم الصين والولايات المتحدة رغم البعد الجغرافي. وتعتبر مراكز التفكير الاستراتيجي مرادفا للدراسات الجيوسياسية بامتياز، وتنتج الكثير من الدراسات وفق نظريات مرتبطة في العمق عموما برؤية ومصالح الدول التي ينتمي إليها الباحثون. وهذا التخصص هو أقرب إلى التاريخ من حيث الهوية، توجد نظريات وتصورات للتاريخ، لكن كل دولة تتوفر على رؤية معينة للتاريخ، تتماشى وهويتها الوطنية وإرثها الحضاري. وهذا لا يحصل في حالة جيوبولتيك عموما، فهذا التخصص حديث وهو من اختصاص الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ثم القوى الكبرى الجديدة مثل الصين وروسيا. لهذه القوى تصورات جيوسياسية خاصة بها بينما غالبية دول العالم تفتقر لتصور محدد.

مضمون أطروحات كبار منظري جيوبولتيك لا تناسب دول الجنوب، لأنها مصاغة لفضاءات تختلف عن فضاءات الجنوب، اختلافات تمس التاريخ والثقافة والاقتصاد والمستوى العسكري

وانتبهت دول الجنوب الى أهمية الدراسات الجيوسياسية، وأصبحت كل دولة تريد صياغة خريطة طريق جيوسياسية خاصة بها للمستقبل. وتصطدم هذه التطلعات بعائقين الأول، يتجلى في ضعف الدراسات الجيوسياسية في دول الجنوب بحكم محدودية دور الجامعة، التي تبقى حديثة التأسيس بعد الاستقلال عموما. ويتمثل العائق الثاني، في قلة الباحثين القادرين على صياغة نظريات خاصة بالجنوب باستقلالية عن السلطة السياسية، ومن دون السقوط في البروباغندا، وهذا يفتح الباب أمام أشباه الخبراء، إذ أن معظم نظريات جيوبولتيك من إنتاج مفكرين ينتمون الى الدول الكبرى، وهي ترسم معالم الحفاظ على التفوق ومواجهة المنافسين والانتشار في العالم. وعليه، مضمون أطروحات كبار منظري جيوبولتيك لا تناسب دول الجنوب، لأنها مصاغة لفضاءات تختلف عن فضاءات الجنوب، اختلافات تمس التاريخ والثقافة والاقتصاد والمستوى العسكري والأهداف المسطرة مستقبلا ضمن قضايا أخرى. علاوة على هذا، نظريات الغرب تهدف إلى الحفاظ على قوة الغرب، بينما دول الجنوب تحتاج لمفكرين يصيغون نظريات تعمل على صعود الجنوب واكتسابه القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية. ولهذا، فهذه الدراسات تتطلب أولا تطوير نظريات تتعلق بالعلاقات الإقليمية لدول الجنوب من خلال بناء التجمعات الإقليمية، ثم صياغة العلاقات مع القوى الكبرى. واللافت في كثير من الدراسات الجيوسياسية هو انتقاد الغرب والترحيب في المقابل بالصين وروسيا، وكأن قدر الجنوب بدوله وشعوبه هو البحث الدائم عن وصي، بدل التفكير انطلاقا من مصالح الجنوب. ويعد انتقاد الغرب واعتبار الصين بديلا، عملية تغيير وصي بوصي آخر. ولا تعد الصين نموذجا للديمقراطية وسيادة القانون، فهي دولة تفتقر للديمقراطية الداخلية، ولكنها منصفة في علاقاتها الخارجية، بينما الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة تمارس ديمقراطية داخلية متطورة لصالح شعوبها وغير منصفة في علاقاتها الخارجية، بل منحازة في الكثير من الملفات مثلما يحدث الآن في حرب قطاع غزة. ودائما تساعد محطات تاريخية لفهم ظهور وعي بقضايا معينة، ونجد المنعطف الحقيقي بشأن رؤية جيوسياسية في الجنوب مستقلة عن الشمال، ولا تعتمد الشعارات السياسية التي كانت جوفاء في الغالب بعد الاستقلال، في حادثين، كورونا وحرب أوكرانيا – روسيا. علاقة بالحدث الأول، وجدت معظم دول العالم الثالث نفسها محرومة من الكثير من المواد، خاصة الطبية، حيث كل الدول الغربية وروسيا والصين فضلت تلبية حاجياتها أولا قبل التفكير في الآخر. وهنا بدأ التفكير في بناء الذات الوطنية، ما تطلب البحث عن مفكرين وباحثين مختصين في الجيوسياسة. وتجلى الحدث الثاني في رفض معظم دول العالم الثالث الانضمام الى المخطط الغربي لإدانة روسيا في الحرب الأوكرانية، وهذا يعني أنه يجب على الغرب عدم تعميم مشاكله. وكان المفكر والسياسي الفرنسي دومينيك فيلبان قد صرح وقتها «الجنوب لا ينضم إلينا لأن هذه الحرب ليس حربه».
ومقارنة بين دول الجنوب، تنفرد تلك التي لديها مشاريع طموحة مثل تركيا والبرازيل وإيران وجنوب افريقيا وإندونيسيا، بإنتاج فكر جيوسياسي متميز يتماشى ومشاريع أممها وأوطانها، من خلال أجندة مواضيع دقيقة هي الطاقة النووية السلمية والصناعة الحربية والصناعة المدينة المتقدمة واستقلالية القرار السياسي.
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية