غزة- “القدس العربي”:
عم الحزن والحداد مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، والذي شهد مجزرة دموية راح ضحيتها أكثر من 40 مواطنا، كانوا نياما لحظة استهدافهم داخل “مركز إيواء” يتبع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”.
وفي هذا المخيم الذي يعجّ بالنازحين، وعانى من ويلات الحرب الإسرائيلية الدامية المستمرة منذ ثمانية أشهر، تبدل المشهد داخل مركز الإيواء المستهدف، فبدلا من تفقد النازحين أحوالهم صباح اليوم، بحثا عن قوت يومهم، امتلأت ساحة المركز التي كانت تشهد حركة رائجة على مدار ساعات النهار، بسبب العدد الكبير من النازحين، بالحطام الذي خلفه القصف الإسرائيلي العنيف، وبدماء الضحايا وبقايا أجسادهم التي مزقت غالبيتها.
وبدلا من سماع الأطفال وهو يلهون صباحا، أو أصوات الرجال والنساء وهي تتبادل تحيات الصباح اليومية مع شركائه في السكن، وحديثهم عن ترتيبات يومهم الجديد في النزوح، كانت تعلو في المكان أصوات البكاء والصراخ، على ضحايا المجزرة المروعة التي اقترفها جيش الاحتلال بحق النازحين.
وقد وقعت المجزرة فجر الخميس، وكان أغلب سكان المركز نياما، وهو ما خلق حالة من الخوف الشديد، عندما أفاق الناجون وخاصة الأطفال منهم على أصوات تحطم المباني وارتجاج من سلم منها من القصف وكأن الأمر أشبه بزلزال قوي.
وفي روايته عما حدث، قال خالد أحد النازحين الذين نجوا من المجزرة لـ”القدس العربي”: “شعرنا فجأة بالمبنى يتحرك يمينا وشمالا وكأنه حصل زلزال”، وتابع: “بدأت أصوات انهيار المبنى تسمع وغطى الغبار المكان”.
ووقت القصف كان هذا الرجل نائما مع أفراد أسرته في إحدى الغرف المقابلة للمبنى المستهدف في مركز الإيواء، وقال إن شظايا القصف تطايرت صوبهم وأصابت عددا من المتواجدين في الغرف المجاورة لهم.
وفي ذلك المكان، استند رجل على أحد جدران المركز، وقد كان معصوب الرأس وعلى يده اليمنى لفافة طبية، بسبب تعرضه للإصابة، وبكى بحرقة على أفراد من عائلته قضوا في الغارة، وبصعوبة كان يخرج كلماته، قائلا: “راحوا فجأة الله يرحمهم”، وتابع في حديثه لـ”القدس العربي”: “فجأة نزل صاروخ وصار فينا هيك”، ولم يتمكن الرجل من الحديث أكثر مع دخوله في موجة بكاء.
وفي ذلك المكان، وقفت سمر وتكنى أم محمد، تنظر إلى ما حل بهم من دمار جراء الغارة الإسرائيلية، وكانت آثار الغبار الذي خلفه القصف لا تزال على وجهها، وقالت: “وين بدنا نروح؟”، وتابعت في حديثها لـ”القدس العربي”: “من يوم ما طلعنا من غزة وإحنا من نزوح لنزوح”، وقد كانت هذه العائلة قد نزحت سابقا إلى مدينة خان يونس، واضطرت لتركها إلى مدينة رفح حين تعرضت لهجوم بري، قبل أن تقرر مؤخرا التوجه إلى مخيم النصيرات.
وتحدثت هذه السيدة التي كانت تقطن قبل نزوحها شرق مدينة غزة، عن حالة الخوف التي يعيشها أطفالها، ولم تستطع وقتها كتم دموعها، وقالت إنها في كل يوم تتوقع أن تصاب عائلتها بمكروه بسبب الهجمات الإسرائيلية العنيفة، التي تستهدف كل مناطق غزة، وقد كانت تلك السيدة كغيرها تتوقع أن تحميهم “مراكز الإيواء” كونها تتبع منظمة أممية من القصف الإسرائيلي، غير أن المجازر المتلاحقة غيرت تفكيرها، وجعلتها تلجأ إلى هذه المراكز للمبيت والسكن فقط، لا بحثا عن الأمان، وقال:ت “ما في أمان في أي مكان، كل غزة ساحة حرب”.
وبدت في ذلك المكان أثار الصدمة واضحة على وجوه النازحين وخاصة الأطفال منهم، خاصة أولئك الذين فقدوا أقارب أو أصدقاء لهم في الغارة، غير أن نزلاء المركز يؤكدون كغيرهم من النازحين، أنه لم يعد هناك مكان آخر يلجأون إليه، بسبب اكتظاظ مناطق وسط القطاع بالنازحين، الذين وصولا مؤخرا قادمين من مدينة رفح التي تتعرض لهجوم بري عنيف، ما يضطرهم للبقاء والإقامة على أنقاض الدمار.
ويقول أحمد الحاج، أحد الشبان الذين وصولوا إلى المركز لمساعدة فرق الدفاع المدني والمسعفين في عمليات الإنقاذ، وهو أمر اعتاد عليه السكان، إنهم انتشلوا جثثا من تحت عدة كتل خرسانية، مشيرا إلى أن انهيار هذه الكتل من الطوابق العليا للسفلى، صعّب من مهمات الإنقاذ.
وأوضح أنهم كانوا داخل المبنى المستهدف يتحركون بصعوبة بالغة للغاية بسبب الركام الكبير.
وقد خلفت المجزرة مشاهد مؤلمة بشكل كبير، وكان أكثرها إيلاما وداع الضحايا، حيث جرى تداول مقطع على مواقع التواصل الاجتماعي لرجل مصاب وهو يودع ابنته الطفلة بالقول: “إذا بتقولولي ميتة مش مصدقكم، وأنا جايبها (يقصد للمشفى) اطلعت في (نظرت إلي)”.
وتابع: “هذه أعز من أخواتها الاثنتين، كانت تعملي القهوة”، وأضاف وهو يتحدث عن ابنته وتدعى ميس: “اطّلع عينيها محلاهم… اطلع ما أطولها وهي في الصف الثالث.. ميس ملكة”.
وكان من بين المشاهد المؤلمة في المجزرة أيضا، وضع أشلاء خمسة من الشهداء الأطفال في كفن واحد، وقد حملوا سويا ووضعوا في ذات القبر لحظة دفنهم.
وبسبب عدد الضحايا الكبير، وُضع المصابون الذين نقلوا إلى مشفى العودة القريب من المكان، وكذلك مشفى الأقصى على الأرض، بعد أن امتلأت أسرّة العلاج بمصابين، يفوق عددهم قدرات المشفى.
وقال خليل الدقران الناطق باسم مشفى الأقصى، إن غالبية الضحايا والمصابين من النساء والأطفال، لافتا إلى أن من بينهم إصابات خطيرة، بسبب استهداف ثلاثة طوابق من مركز الإيواء.
وقالت إحدى السيدات اللواتي أصبن في الاستهداف الدامي، وكانت تتلقى العلاج بمشفى العودة: “بكفي حرب بكفي مش قادرين”، فيما وضعت بجوارها طفلة صغيرة كانت تصرخ وترتجف من شدة الألم والخوف.
وفي المشافي، لم تتعرف بعض الأسر بسهولة على أفرادها بسبب تمزق أجسادهم إلى أشلاء من شدة الانفجارات وانهيار الكتل الإسمنتية عليهم.
وقد قام ذوو الشهداء في ساعات الصباح، بحمل الجثامين التي وضعت في ساحات المشافي طوال ساعات الليل، إلى مثواهم الأخير في المقابر، وسط أجواء من الحزن والحداد.