نقاشات التنوير: بئر معطلة وقصر مشيد

حجم الخط
0

عندما يتحول الثقافي إلى إعلامي وإعلاني تزيد معه ساحة الشك والقلق. دون سابق إنذار خرج علينا كيان ثقافي وليد أو بالأحرى مستولد تحت مسمى «تكوين» يبشر بقدوم التنوير والحداثة لعالمنا العربي. وفى قراءة لهدف المشروع على موقعهم الإلكتروني فهو يدعي تمهيد السبيل نحو تفكير عربي مستنير، من خلال آلية أولية هي إصلاح وتجديد الفكر الديني وتراثه. هل هذا هو التنوير؟ عند الاستماع والقراءة لرواد المشروع الجديد، يتراءى للجميع بوضوح أن فكرتهم عن التنوير غريبة وعاجزة، وكأن التنوير معروف ومحدد بحدود وتضاريس وماهية معينة معروفة مسبقا، وعلينا السير نحوها مباشرة وأن طريقه واضح المعالم، أو طريق واحد لا غير! هل التنوير هدف في حد ذاته؟ وما هي طبيعة التنوير؟ وما هو المعيار للحكم على الفكرة الجديدة أنها مستنيرة، ومن يقول إنها فكرة مستنيرة؟
حين قدّم الأوروبيون – والفرنسيون بالأخص – تحديثا في الفكر والسياسة منذ نهاية القرن السابع عشر، لم يستهدفوا شيئا اسمه «تنوير» لأن ما قدموه كان إنتاجا تاريخيا، ابن ظروفه وزمنه، وليست أقانيم ولا مرجعيات مطلقة أو ميتافزيقية. التنوير مسألة تحديث تاريخية يخوضها المجتمع الواحد ضد أزماته، وحينما يتعرف على محددات تخلفه: سلطة دينية، أم سلطة سياسية أم أزمة اقتصادية وعدالة توزيع، أم أزمات تعليم ومرض وفقر، أم كلها معا؟ وأين الأولوية؟ ومن أين نبدأ، هل من إصلاح السلطة، أم الثقافة، أم الفقه أم …؟ ما هي الطبقة القادرة على حمل ودفع الإصلاح والتغيير؟ ما هو موقف النخبة الحاكمة من التحديث؟ هل تم تحديد وفهم الطبقات والطوائف في المجتمع، وما هو نوع وشكل المشاركة الاجتماعية المطلوبة في تحديد التحديث المطلوب؟ وغيرها من أسئلة الحاضر والمستقبل. الفحص الدقيق لسرطانات التخلف والرجعية، كانت الهاجس الأول قبل تقديم روشتات علاجية، لأي نماذج إصلاحية عرفها العالم. هذا الفحص لا تقوم به نخبة محدودة من المفكرين، لكنه مشروع ثقافي عام يقوم به المفكر والأديب والفنان والسياسي والأكاديمي والنقابي والطالب، إلخ. لم تكن صالونات باريس حكرا على فلاسفتها فقط؛ والصحافة والبرلمان والمصلحون الاجتماعيون في بريطانيا، هم من حملوا راية تنويرها. يحدثنا التاريخ عن مشاريع كبيرة في الإنتاج الثقافي والعلمي والفلسفي جاهد أصحابها لتكون مشاعا وسهلة التداول، مشاريع لا تصنع أيديولوجية بعينها بقدر ما تقاوم كل سلطة كهنوتية ورجعية أمام التقدم والخير والحرية وصرنا نسميها حديثا «تنوير».

فخ الثقافوية

بعيدا عن وضعية الاستقطاب المصطنعة بين الديني والعلماني في نقد مؤسسة «تكوين» لكن المكون السياسي هو نقطة الصراع الأبرز، حيث ساهمت الخلفية السياسية المتخاذلة لشخوص قيادات مؤسسة تكوين في بناء صورة سلبية عن المشروع، كون أغلبهم يقدمون خطابا إعلاميا – ثقافيا متواطئا مع السلطة السياسية ما يجعلهم غير جديرين بنزاهة التناول الثقافي والديني. لكن الأزمة أبعد من ذلك، فهناك انفصام تام للأرضية الرئيسية في تناول قضايا التنوير عند مؤسسة تكوين، بل لدى غالبية الوجوه المتصدرة للقضية، عمدا أو جهلا، عن واقع الانحطاط العام، بحيث غاب عنهم السؤال الاهم: هل واقعنا المتأزم ثقافي أم سياسي؟
اختزال كل التفاصيل والتعقيدات التي أنتجت الواقع المتردي في نموذج ثقافوي هو آفة المثقفين العموميين، كما يسميهم ياسين الحاج صالح الناتجة عن تجاهلهم الوقائع الفعلية «لا يدرسون ما يتكلمون عنه. لا شيء عن إصلاح التعليم. لا شيء يذكر عن الحريات العامة. لا شيء عن إصلاح الدين. لا شيء عن اللغة. لا شيء عن المعرفة. لا شيء عن المخيلة. لا شيء عن الذاكرة» مستخدما اصطلاحا معبرا مصاغا بحرفية كبيرة وهو مصطلح «هوموإسلاميكس» الذي يحيل الإنسان بكامله، كما يقول، إلى الإسلام. ينظر العلمانيون والإسلاميون إلى صنف خاص من البشر يحكم الإسلام في أفعاله كلها، فلا شيء في ما يفعله غير إسلامي، ولا شيء غير إسلامي في تكوينه وسلوكه وتفكيره. إنه هوموإسلاميكس، إنسان آلي مبرمج على الإسلام أو الشريعة. هذه الثقافوية عقائد خلاص، تبحث عن مفتاح كلي، عن إكسير، وأن كل اختزال لكثرة العالم، إلى مبدأ واحد لعلّه يسهل اختزال مجتمع الكثرة بحاكم فرد.
الشك القائم في متصدري المشهد له وجاهته فنحن أمام نموذج مؤدلج في الرصد والتناول تحكمه خلفيته وصراعاته مع الإسلاميين في فحص المجتمع، يعلن صراحة وضمنا اختزال كل أزمات الواقع المتأزم في ثقافوية الدين والتراث والشريعة فقط. الحقيقة أنه لم توجد حركة تنويرية في التاريخ استهدفت تنوير عقل العامة أجمع، ولم تكن لدى أصحابها من «المنورين» حماقة الظن بأنه يجب استئصال الرجعي والمتخلف من الوجود، لكن شاغلهم الحقيقي كان استئصال سلطة الرجعي والكهنوتي من المجال العام والسياسي. وهنا يطل علينا سؤال آخر: هل التصدي لقضايا التنوير والتحديث لها مرجعية تاريخية، أو باراديم محدد، بحيث أصبح علينا جر التاريخ للوراء إلى القرن الثامن عشر، مثلما فعل الفرنسيون ونبدأ من حيث بدأوا؟
النماذج الحداثية الجديدة في القرن العشرين، ومن بعد الحرب العالمية الثانية التي نشأت في آسيا أو أمريكا الجنوبية، اتخذت مسارا اقتصاديا ونحت في اتجاه إصلاح سياسي في المقام الأول متخطية كل مشاكل الثقافوية (العقل والثقافة والدين). وبالإصلاح التعليمي والبحث العلمي والحريات استطاعت أن تتجاوز وتهضم مراحل زمنية طويلة، لأجل إصلاح الثقافة أو التنوير.. بدأت سياسيا وانتهت ثقافيا. وهذا الدرس الأهم لنا الآن. فلماذا الإصرار على اختزال العام في الديني فقط؟ ربما من يقول إن الفترة الليبرالية المصرية كانت ثقافوية بامتياز، وإنه يجب المراكمة عليها، لكن يبدو أن هذه الفترة الطويلة الممتدة لسبع عقود من تاريخ دولة الاستقلال توقفت عندهم، أو كانت مجرد جملة اعتراضية في تاريخنا! بل إن الكثير من أزمات الثقافة الموجودة في تلك الحقبة تم تجاوزها الآن، وأصبحت لدينا تركيبة سرطانية للانحطاط من الفقر والمرض والجهل وغياب الحريات.

الما بعد حداثي أول

اندلعت ثورة يناير/كانون الثاني وقامت معها أسئلة واستحقاقات حداثية وتنويرية حول الدولة والدستور والعيش والحرية والعدالة والديمقراطية والمساواة، المطلب التنويري كان قائما وأسئلته مطروحة؛ لكن هذا المسار الحداثي فقد شروطه وقوته في مواجهة الثورة المضادة سريعا، فكان لا بد من أن يظهر مسار ما بعد حداثي بديل خاصة، وأنه طليق الحركة فوضوي في ماهيته، حسب توصيف الباحث في الفلسفة محمد دوير «فالطاقة التي انفجرت لا بد من تصريفها بأي طريقة، ومن هنا كان المسار ما بعد الحداثي إجباريا، وضروريا، وفحوى ضرورته أن الانفجار الثوري حدث، وأن توجيهه إيجابيا قد فشل، ولذلك لا بد من استثمار ذلك الأفق الذي بات منفتحا، فاتجهت الطاقات المتفجرة تلك نحو مزيد من التفكيك، والتشظي، والعبث، وأحيانا الاكتئاب، والبحث عن مصالح الذوات الفردية بالهجرة إلى خارج الوطن، أو الانكفاء علي الذات وجلدها أو تشويه الواقع ولعن الظلام، وذلك نتيجة إجهاض الذات الجماعية، فظهرت رؤى ما بعد حداثية كردة فعل سلبية لروح الثورة التي كانت تصوب مدافعها نحو الدولة القديمة، وحينما فشلت صوبت مدافعها نحو المجتمع».
تراجعت الأسئلة الكبرى وحل التشظي، وأصبحت القضايا الفرعية تتصدر النقاش العام، منتهية بضجيج واستقطابات لا أكثر. يقول دوير: لقد توسعت مطالب الحريات الفردية حينما استحالت فكرة الحرية الاجتماعية والنقابية والسياسية والحزبية والطلابية، وصار كل ما هو فردي متاحا ومفروضا ومتحققا على حساب كل ما هو جماعي، صار كل ما هو ما بعد حداثي مطروحا بقوة ويتم قبوله تدريجيا، على حساب الاستسلام لواقع موت السياسة والحياة المدنية والتنظيمات السياسية والثقافية والنقابية.
خسرت القضايات الفرعية المهمة، التي ضربتها السيولة المابعد حداثية على حد توصيف زيغموند باومان استحقاقتها بفعل غياب الإطار العام الذي تستمد منه قوتها وأحقيتها. كيف نناقش قضايا المرأة والميراث والحجاب، إلخ في ظل مجتمع مغلق حرفيا يسلب ولا يعطي؟ المرأة مثلا في الولايات المتحدة تحصلت على حقوقها السياسية من إطار مجتمع نضح بشكل كاف لكي يمنحها كامل حقوقها، ولم تك تستطيع الحصول عليها لو لم يصل لهذا النضج الكبير في الحقوق والحريات والديمقراطية العامة، بحيث أصبح قادرا على أن يمنح.
المناقشات التنويرية التي لم ترق لمراحل الأطروحات في المناخ الحالي لا تخرج هى الأخرى عن هذه السيولة المابعد حداثية، خاصة أنها تتجاهل الأسئلة الكبرى وشروط نضج المجتمع. المحاولات المستمرة الآن لوضع التنوير في مواجهة الدين، أو بالأحرى «رجال التنوير» في مواجهة رجال الدين، وصناعة استقطاب حاد بين الديني والعلماني ما هي إلا عملية تقزيم وتفريغ مفتعلة للثقافة وإبقاء الوضع في حالة اللاحركة وضخ مزيد من الضجيج المابعد حداثي.

هل ثمة مخرج؟

المشهد الصاخب إعلاميا قد يوحي للبعض أن التنوير مسألة جسارة فقط، أو أنه متاح لمن يريد يغرف منه ما يشاء. المسألة ليست مستحيلة، لكنها مشروطة، والتنوير في دولنا العربية يتعثر في إيجاد قوى اجتماعية أو نخبة تحمله والمحاولات الماسخة والقاصرة والمنقوصة، لا يمكن أن تسمى محاولات جادة، خاصة لو كان أصحابها يحملون رؤى استشراقية، أو يتمترسون خلف أطروحات المركزية الأوروبية الجاهزة في التنوير. الاستحقاق التنويري هو تاريخي بامتياز، ابن زمنه ومرحلته، وليس حكرا على نموذج تاريخي بعينه، والتاريخ مليء بنماذج متنوعة تناسب والطبيعة الواقعية لكل مجتمع؛ فالتنوير البريطاني في نهاية القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر مختلف عن التنوير الفرنسي والتنوير الأمريكي مختلف عن الاثنين، رغم وقوعها في حيز زمني متقارب. كل تنوير يقوم على أنقاض أصنام رجعية ومتخلفة واضحة، لا تقبل المواربة أو التغاضي عنها… فهل حددنا أصنامنا؟
نقد التراث والشريعة ليس كافيا على الإطلاق لصنع مناخ تنويري، خاصة أنه لا يسعنا التكلم على علوم اجتماعية وإنسانيات في ثقافتنا المعاصرة. وكما يشير الحاج صالح، لا بد من ـ الاعتراف بالدين كعلاقة دنيوية، كشيء قابل للشرح بلغة الاجتماع والسياسة والاقتصاد والفلسفة وعلم النفس والتاريخ.
لقد انقلب «برنامج تحقيق الغرب» إلى ضده، وأنتج نخب سلطة عنصرية متوحشة. الأدعى للقلق أن الكثير من المحاولات النقدية في الدين على هامش التنوير، تأخذ زاوية تصفية الحسابات مع الخصوم الأيديولوجيين، أو حتى تصفية الحساب مع رموز تاريخية. نقد يتجه للإقصاء وليس للتصالح مع الآخر ومع الماضي. التنوير يتطلب معه نوعية مختلفة من المثقفين تواجه الانحطاط وأقانيمه الواقعية، من فقر ومرض وجهل واستبداد؛ مثقف يرى ويشرح المجتمع في أصول واقعه المتردي، وليس برؤية ثقافوية تختزل كل شيء في ثقافة متناسلة منذ الماضي وعليه يصبح شرط التغيير ثقافيا فقط. المشهد صعب ويتخذ مسارا عبثيا، فبدلا من فضح تحالف الديكتاتوريات العسكرية مع التطرف الديني الذي أنتج الواقع المتطرف والمغلق، شرعت نخبة الثقافة العربية في خدمة هذه اللعبة بإتقان ثم تأتينا اليوم لتحذر من «المتطرفين» من خلال أموال ومنابر السلطة المستبدة!

كاتب من مصر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية